ما زالت الأربعينية الجزائرية سامية شماني تتذكر اسم أستاذة التربية الفنية "الآنسة سعاد"، التي كانت تعلمها الرسم والموسيقى في المدرسة، كما كانت تعزف على آلة الكمان، بينما مثل هذه الحصص لم تعد موجودة حالياً في المقررات المدرسية. تقول شماني: "كانت حصة جميلة ننتظرها، كما أن الآنسة سعاد كانت تعمل على تكوين كورال فني من طلاب القسم. الآن، كلما سألت أبنائي عن الدروس التي يتلقونها، يذكرون كلّ المواد عدا الموسيقى والرسم، والتي يتم التعامل معها على اعتبار أنّها مواد ثانوية مقارنة بالمواد الأخرى، بينما بقيت حصة التربية الرياضية ولم يجرِ إلغاؤها".
وكشف وزير التربية عبد الحكيم بلعابد، في 29 مايو/ أيار الماضي، أنّ شعبة الفنون ستكون ضمن المقررات المدرسية في المرحلة الثانوية خلال العام المقبل، فضلاً عن استحداث شعبة بكالوريا فنون، في سياق إيلاء الأهمية للتربية الفنية لما لها من تأثيرات على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، على أن تضم الشعبة أربعة تخصصات، هي السينما، والسمعي البصري، والمسرح والفنون التشكيلية، والموسيقى.
وحتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، كانت المدارس الجزائرية تضمن مساحات لإبداع التلاميذ في أجندة الدروس الرسمية، تشمل الرسم والمسرح، علاوة على إقرار المشاركة في الفعاليات والمسابقات التي كانت تقام بين المدارس والمناطق لتحفيز التلاميذ على التنافس، وكانت تضم تقديم العروض الفنية المختلفة، غير أنّ الظروف التي شهدتها البلاد خلال الأزمة الأمنية في التسعينيات، أدت إلى إلغاء هذه المواد، وألغيت تبعاً لذلك المسابقات التربوية الفنية. وتجاهلت أغلب مقررات الإصلاح التربوي التي باشرتها الحكومة بداية من عام 2002، إعادة تلك الأنشطة الفنية إلى الروزنامة المدرسية، وبات المقرر عبارة عن كم هائل من الدروس والكتب، من دون أن تتاح للتلاميذ أي فرص لإظهار مواهبهم، أو للاحتكاك بالقيم الفنية.
ظلت هناك بعض المبادرات لأساتذة راغبين في تعميم النشاط الفني بالمدارس، إذ تضم بعض المؤسسات التعليمية فرقاً للموسيقى، أو كورالاً، أو مجموعات للرسم، وبعضها يشارك في مسابقات وفعاليات محلية، لكنّ عددها محدود نظراً إلى أنّ الاهتمام بالمواد الفنية والإبداعية في المؤسسات التعليمية بات محدوداً جداً، إذ تراجعت حصص تنمية المواهب في الروزنامة، وتم إلغاؤها بالكامل في غالبية المدارس، بينما كان يمكن أن تساهم في اكتشاف مواهب فنية، وتهذيب نفوس الأجيال، كما أنها تساعد على بناء الشخصية، وغرس قيم الخير.
في المقابل، يرى البعض أن الحصص الفنية "مضيعة للوقت"، وهو أمر يعزوه كثيرون إلى عدم وجود ثقافة الاهتمام بالفنون لدى العائلة الجزائرية في مجتمع ترغب غالبيته بأن يتخرج أبناؤها أطباء أو مهندسين، ما يفسر تركيز العائلات على تحفيز أطفالهم على تدريبات الحساب الذهني في مراكز ومؤسسات خاصة، وتجاهلهم الاهتمام بالتنشئة الفنية.
كانت الشابة بسمة عسلي خلال طفولتها من بين التلاميذ الذين يمتلكون موهبة الرسم، ورغم أنها لم تجد في الفضاء المدرسي مجالاً لتطوير موهبتها، أصرت على مواصلة تطوير موهبتها، وقادها حبها للرسم بعد الحصول على البكالوريا للتوجه إلى المعهد الوطني للفنون الجميلة بالعاصمة الجزائر.
تقول بسمة (22 سنة)، لـ"العربي الجديد": "لم نكن نتعلم في المدرسة شيئاً عن الرسم، وكان أكبر تحد خضته مع العائلة بعد اجتياز البكالوريا هو قرار التوجه إلى معهد الفنون، فالجميع كانوا ضد خياري، إذ كان الجميع ينصحونني بأن أسجّل في جامعة تقنية، أو كلية قريبة من تخصصي في الثانوية، غير أن خياري كان المدرسة العليا للفنون الجميلة، وفي النهاية انتصرت. لكن بعد جهد جهيد".
ويؤكد أساتذة الفنون أن ثمة فوائد جمة للحصص الإبداعية، كونها تنمّي قدرات التلميذ على المثابرة التي يفتقدها في الدروس الأخرى، علاوة على كونها تمارس ضمن مجموعات تحتاج إلى التجاوب والتفاعل بين المشاركين، وهذا ينمي قدرات الإنصات والتركيز.
من جهتها، تشير الاختصاصية الاجتماعية نذيرة بوسبولة إلى أنّ إدراج المهارات الفنية كمواد دراسية له فوائد مهمة، فالرياضة والرسم والموسيقى والمسرح من شأنها أن تنشط الذهن وتعزز التركيز، موضحة في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "هذه المواد بإمكانها تفجير الطاقات الكامنة، خصوصاً لدى الأطفال في سن ما بعد العاشرة، كما أنها تدعم رغباتهم، وتلبي شغفهم".
وتضيف بوسبولة: "إجبار التلاميذ على قوقعة الإرغام، وحملهم على تعلم مواد متعددة بالإكراه غالباً ما يؤدي إلى كبت المقومات الإبداعية لديهم، بينما الأنشطة الفنية تساهم في دعم قدراتهم على اكتشاف أنفسهم، وتعويد التلميذ على الأداء المسرحي كمثال يساهم في تعويده على الحركة، وارتكاب الأخطاء وتصحيحها يدعم فكرة التعلم، وهذا يختلف عن الدروس العادية".
وضاعت خلال السنوات الماضية مواهب فنية كثيرة بسبب الأفق المغلق في الفضاء المدرسي، وغياب التشجيع، سواء في المدارس أو في المحيط العائلي، وهو ما يحاول كثيرون إنقاذه في أعمار أكبر عبر استغلال الفرص في فضاءات أخرى، وهي رحلة مضنية لمن ضاقت عليهم السبل في الصغر.
ولعل القرار الحكومي الأخير بإنشاء شعبة الفنون في المرحلة الثانوية قد ينعكس لاحقاً على إعادة المواد الفنية إلى صلب المقررات المدرسية في المستقبل القريب.