باتت هناك وظيفة ثانية لمدارس "أونروا" في قطاع غزة إلى جانب التعليم العادي، باعتباره الوظيفة التقليدية للمدرسة في كل دول العالم والمجتمعات البشرية. الوظيفة الثانية التي نتحدث عنها جعلت من هذه المدرسة مركز إيواء للاجئين لجأوا إليها، ظناً منهم أنها مكان آمن بالنظر إلى تمتعها بالحماية الأممية تحت علم الأمم المتحدة الأزرق. وهو أمر لم تثبت فعاليته في أحيان كثيرة ليس في قطاع غزة فقط، بل في جنوب لبنان أيضاً. والدليل الأبرز الحاضر في ذاكرة أهل الجنوب مجزرتا قانا الأولى والثانية عامي 1996 و2006 اللتان حدثتا في أحد مقار الأمم المتحدة التي لجأ إليها الأهالي ظنا منهم أنها تمنع الوحشية الإسرائيلية من أن تطاولهم فكانت النتيجة معاكسة تماماً.
وتحولت مدارس أونروا في القطاع إلى ملاذ للأهالي المستهدفين بالقصف الجوي والبري والبحري. والواقع أن أهالي غزة اكتشفوا في الحروب التي مرت على القطاع، وهي متلاحقة ومتواترة، أن مؤسسات الأمم المتحدة يمكن أن تقيهم مخاطر القصف. وهكذا في كل حرب، كان الألوف من اللاجئين يعودون إلى اللجوء ثانية، وإنما إلى المدارس كمكان مؤقت، ريثما تهدأ عاصفة النار التي تستهدفهم.
أخيراً دفعت مئات وألوف الغارات اليومية والقصف الغزير الذي تعرضت له مدينة غزة ومدن ومخيمات القطاع بالأهالي إلى مغادرة منازلهم والتوجه نحو المدارس. فقد كان واضحاً لهؤلاء الذين هم ممن سبق وجرى تهجيرهم من ديارهم في فلسطين، أن منازلهم هشة إلى درجة تجعلها لا تصمد أمام تأثيرات الانفجارات التي تستهدف الأحياء القريبة منها. فقد رأى هؤلاء بأم أعينهم الأبراج العالية والمتينة التي لطالما تباهت بها غزة وهي تنهار خلال دقائق قليلة وليس أكثر.
ومدارس "أونروا" كانت الأمكنة الوحيدة المتاحة أمامهم. فقد حاولت إسرائيل عبر آلة حربها دفع الغزيين إلى ترك القطاع والتوجه نحو الأراضي المصرية. وعندما اكتشفت مصر ذلك أبلغت القوات الإسرائيلية بأنها لن تسمح بتهجير الغزيين إليها، وجرى إقفال معبر رفح، وكان غيره مقفلاً بالأصل، وبات الأهالي محاصرين بالكامل. وعلى طريقة طارق بن زياد المعروفة: "البحر من أمامكم والعدو من ورائكم وليس لكم سوى القتال والصبر"، لم يجدوا أمامهم سوى قشة مدارس أونروا يتمسكون بها.
وهكذا كان على الإدارات المدرسية أن تستبدل استقبال تلامذتها كل صباح بأعداد من اللاجئين مع أبنائهم وبناتهم. وبدل حصص التدريس اليومية المعتادة، بات على الوكالة أن تؤمن وسط شح الإمكانات وجبات الطعام في ظل وضع أقل ما يقال عنه إن كل ما في حياة ومحيط المدارس ليس سوى حلقات نار قاتلة، يستحيل معها تأمين شربة الماء المقطوعة مثلها مثل الكهرباء وحبة الدواء وقطرة المحروقات وما شابه.
(باحث وأكاديمي)