- الوضع الإنساني يتدهور مع منع الاحتلال وصول الإسعاف والطواقم الطبية لمساعدة المصابين أو نقل الجثامين، وسط قصص النزوح القسري والمعاناة اليومية التي يرويها السكان.
- سكان المخيم يظهرون إصراراً على البقاء والمقاومة، معتبرين المخيم رمزاً للنضال والتاريخ الفلسطيني، مؤكدين على أهمية الأرض وحق العودة، ومتحدين محاولات الاحتلال لتدمير إرادتهم ومسح ذاكرتهم.
مأساة جديدة يعيشها الموجودون في مخيم جباليا، في ظل الاقتحامات الإسرائيلية والمساعي لتفريغه من أهله. ويحكي أهل المخيم عن انتشار الجثث في الشوارع من دون أن يكونوا قادرين على الاقتراب منها.
يعيش سكان مخيم جباليا، الواقع في شمال قطاع غزة، واقعاً مأساوياً في ظل هدم الاحتلال الإسرائيلي أجزاء من المخيم من الجهة الشرقية والجنوبية والشمالية، بهدف إخضاعه، وهو أكبر مخيمات اللاجئين في قطاع غزة، بعدما فشلت مخططات الاحتلال في إخلاء المخيم على مدار أكثر من سبعة أشهر من العدوان المستمر منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وحصار المنطقة الشمالية بالكامل وإخضاعهم للجوع المتكرر. على مدار الأيام الأخيرة، عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى قصف منازل ومناطق تضم مدنيين يرفضون ترك بيوتهم حتى لا يسمحوا للاحتلال بتنفيذ مخططه في تدمير المخيم، رغم العدد الكبير من الضحايا الذين سقطوا منذ بدء العدوان، وسط تهديدات مستمرة لسكان المخيم بالإخلاء باتجاه غرب مدينة غزة. كما أراد عدد من سكان المخيم البقاء فيه، لأنهم مثل كثيرين لا يعرفون إلى أين يذهبون.
تكثر أعداد جثامين الشهداء في عدد من شوارع مخيم جباليا، وخصوصاً منطقة بلوك 2، ولا يستطيع الأهالي الاقتراب منها، بسبب انتشار طائرات الاستطلاع الإسرائيلية في المكان، وإطلاقها النار على كل من يقترب منها. يقول محمد عابد (37 عاماً)، الذي لا يزال موجوداً بين أزقة المخيم من الناحية الغربية، التي نزحت إليها أعداد من سكان المناطق الشرقية للمخيم، لـ"العربي الجديد": "نزحت أعداد كبيرة من مخيم جباليا خلال الشهر الأول من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لكن كثيرين لا يزالون يؤمنون بعقيدة وصمود المخيم. فلو تُرِك، لكان الاحتلال مسح ذاكرة الأجداد والأجيال داخله. نخاف على أرواحنا ولا نريد الموت لأننا نرغب في المستقبل. في المقابل، لا نريد تدمير منازلنا ففيه كل ذكريات وتفاصيل صمودنا".
ويقول عابد إن عمليات قوات الاحتلال الإسرائيلي مستمرة على مدار أربعة أيام متواصلة من الناحية الجنوبية الشرقية وتحديداً بلوك 2 من المخيم، بعدما اقتحم مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وأفرغها من النازحين وحتى المسنين غير القادرين على الحراك، بسبب شدة القصف المباشر باتجاهه. يضيف: "رأينا جثامين على الأرض، وأجبرنا على الخروج، لأن طائرات الاستطلاع تلاحقنا حتى نتراجع، ولا تزال جثامين عائلات النازحين ملقاة في الشوارع، وتمنع قوات الاحتلال سيارات الإسعاف والطواقم الطبية من الوصول إليهم، أو نقلهم إلى المستشفيات، وتصلنا نداءات استغاثة من عشرات المواطنين المحاصرين تحت القصف من أقاربنا وغيرهم. وحتى الدفاع المدني لم يتمكن من الوصول إليهم".
وأجبرت قوات الاحتلال الإسرائيلي النازحين على الخروج من مدارس المنطقة الشرقية لمخيم جباليا، والتي كانت تأوي آلاف النازحين ممن دمرت منازلهم في المخيم، وقد عاد البعض بعد الانسحاب الإسرائيلي مطلع إبريل/ نيسان الماضي. لكن الاحتلال ومع اندلاع العملية العسكرية في رفح، قرر التوسع في المنطقة الشمالية بالكامل، وطلب النزوح إلى مناطق لا توجد فيها ملاجئ، وهو ما أبقى أعداداً من الناس داخل المدارس في المخيم.
إحدى النازحات، وتدعى سوزان عبد الله، وصلت إلى مدرسة حكومية في الجهة الغربية من المخيم باتجاه حي الصفطاوي القريب، تقول إن اثنين من أبنائها لا يستطيعان النزوح، وانقطع التواصل معهما. ولا تعرف إن كانا لا يزالان على قيد الحياة أو اعتُقلا أو قُتلا.
الخمسينية سوزان من سكان بلدة جباليا شرق المدينة، خسرت منزلها خلال الشهر الأول للعدوان، جراء القصف الإسرائيلي للمنطقة. لم ترغب وأسرتها في النزوح إلى الجنوب، مشيرة إلى أن من نزح إلى جنوب القطاع من عائلتها استشهد في مدينة خانيونس أثناء اقتحام قوات الاحتلال المدينة في فبراير/ شباط الماضي. لذلك، فإن عدم توافر أماكن آمنة رغم الادعاءات الإسرائيلية أبقى الكثير من سكان الشمال متمركزين في المخيم. وتشير إلى أنها من اللواتي تلقين تحذيرات عبر مناشير أسقطها الاحتلال من خلال طائراته على النازحين، وطلبت منهم الذهاب إلى غرب مدينة غزة.
وتشدد على أنها لم تجد وسيلة نقل لها ولوالدتها السبعينية وأغراضهم. وعندما ذهب نجلها الأصغر إلى المنطقة، وجد أن عدداً من العائلات أقامت في منازل مدمرة لدى النازحين. وأحد النازحين في منزل مدمر، في حي النصر، وجد جثمان شهيد متحللاً، ما جعله يشعر بالخوف.
وتوضح عبد الله في حديثها لـ"العربي الجديد": "على مقربة من المدارس، سارت دبابات فوق كل شيء أمامها في منطقة السكة ومنطقة بلوك 4 من الناحية الشرقية ومنطقة المحول. الجميع يريدون حشرنا إلى الوراء، ويرغبون إما في إعدامنا أو إخضاعنا لنستسلم أو نموت في مناطق أخرى". تضيف: "عائلتي هي إحدى العائلات الشاهدة على الكذب الإسرائيلي. أينما ذهبنا يريد الاحتلال قتلنا. أرواحنا ليست هينة علينا وعلى أبنائنا حتى نستغني عنها. لكن في عقيدتنا نحن جميعنا صمدنا على هذه الأرض أكثر من سبعة أشهر، وما زلنا نقول الأرض وحق العودة ونطالب بحقوقنا أمام الجميع. ما حدث هو دروس للأجيال المقبلة، وإن عشنا سنورث حكاياتنا لكل طفل يكبر على هذه الأرض".
نفّذ الاحتلال الإسرائيلي عشرات المجازر بحق اللاجئين والمهجرين في مخيم جباليا، وذلك خلال الشهرين الأولين من العدوان. ويمتلئ المخيم بالنازحين من بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا، وقد وجدوا فيه أقرب نقطة للنزوح. لكن على الرغم من محاولات الاحتلال الإسرائيلي الكثيرة، فإن عدداً كبيراً من سكان المخيم أعلنوا عن بقائهم فيه حتى لا يسقط المخيم.
ومخيم جباليا هو أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة، وأنشئ بمحاذاة بلدة جباليا، بعد نزوح آلاف الفلسطينيين إليه، قادمين من قرى ومدن جنوب فلسطين، عقب النكبة عام 1948. وتشرف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) على مختلف الخدمات الاجتماعية المقدمة لسكان المخيم، الذي يعاني من الاكتظاظ. يقع مخيم جباليا في الشمال الشرقي لقطاع غزة، بمحاذاة مدينة تحمل الاسم ذاته، وعلى مسافة كيلومتر واحد عن الطريق الرئيسية غزة-يافا. تحده من الشمال قرية بيت لاهيا، ومن الجنوب والغرب مدينة جباليا وقرية النزلة، ومن الشرق بساتين الحمضيات. يرتفع المخيم عن سطح البحر حوالي 30 قدماً، ويبعد عن مدينة جباليا مسافة كيلومتر تقريباً، وهو من أقرب المخيمات إلى معبر بيت حانون المنفذ الوحيد لسكان غزة إلى إسرائيل.
يصف الغزيون مخيم جباليا بـ"اللقمة المعلقة في حلق الاحتلال"، كونه المخيم الذي اندلعت منه شرارة الانتفاضة الأولى عام 1987 عند قيام سائق شاحنة إسرائيلي بدعس مجموعة من العمّال الفلسطينيين من مخيم جباليا عند حاجز بيت حانون، قبل أن يصبح معبراً. وشهد المخيم مسيرات وتظاهرات غاضبة كانت هي نقطة تحول كبيرة في حياة الفلسطينيين. وكان مخيم جباليا محركاً للغضب في بقية المخيمات في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل، وينسحب الأمر على الاحتجاجات السلمية خلال السنوات الأخيرة، منها حراك شبابي للمطالبة بالكهرباء، وحراك "بدنا نعيش" الذي كان يطالب بإلغاء الضرائب. يوضح أحد سكان المخيم، عمر أبو فتيلة، أن العائلات تراجعت في منطقة الغربية للمخيم، بعدما وصل القصف الإسرائيلي إلى وسط المخيم بشكلٍ عشوائي. وهناك إصرار من الغزيين على عدم ترك المخيم.
أبو فتيلة هو أحد الذين رفضوا ترك المخيم، قائلاً إن خطوة كهذه تساهم في مخطط التهجير ومسح الذاكرة الفلسطينية. تعود أصوله إلى مدينة يافا، وكان جده عبد اللطيف من أوائل سكان مخيم جباليا، وهو من رجال وعشائر المخيم، وقد دفن في مقبرة الفالوجا، حيث دنس الاحتلال مقابر جده وأفراد العائلة، ويسعى بعد انتهاء العدوان إلى إعادة بناء ضريح لجده. يقول لـ"العربي الجديد": "جربنا الجوع والعطش في المخيم، ومات الناس من جراء الجوع، ودخلنا المستشفيات، ودمرت منازلنا. رفض جيراننا النزوح، واستشهدوا في منزلهم في منطقة شرق الترنس في مخيم جباليا. لكن ما يحصل هو عملية تطهير للمخيم بالكامل". يضيف: "أبلغ من العمر 31 عاماً، وعايشت كل حكايات المخيم، واستشهد عدد من أفراد عائلتي منذ الانتفاضة الأولى وحتى الثانية وخلال هذا العدوان. لا نريد الموت، وبقاؤنا في المخيم هو من أجل الحياة والأجيال الجديدة. لو سقط المخيم، ستكون هناك كارثة على تاريخنا وقضيتنا. يريد الاحتلال مسح الذاكرة في كل حائط كتبت عليه فلسطين وعائدون في المخيم".