للشهر التاسع على التوالي، تواصل المحاكم في المغرب اعتماد المحاكمات عن بعد، كإجراء احترازي للحدّ من انتشار فيروس كورونا، بالتزامن مع استمرار الجدل والانقسام بشأن مدى نجاحها في ضمان شروط المحاكمة العادلة لآلاف المتهمين الذين تمت محاكمتهم خلال الفترة الماضية.
في 27 إبريل/ نيسان الماضي، ﺷﺮع اﻟﻤﺠﻠﺲ الأعلى للسلطة القضائية ﻓﻲ إجراء ﺟﻠﺴﺎت اﻟﻤﺤﺎﻛﻤات ﻋﻦ ﺑﻌﺪ، ﻓﻲ إﻃﺎر اﻟﺘﺪاﺑﻴﺮ اﻻﺣﺘﺮازﻳﺔ، وحفاظاً على صحة اﻠﺴﺠﻨﺎء وجميع العاملين في السلك القضائي في ظل تفشي كورونا، وذلك بعد قرار مشترك ﻟﻠﻤﺠﻠﺲ اﻷﻋﻠﻰ ﻟﻠﺴﻠﻄﺔ اﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ ووزارة اﻟﻌﺪل ورﺋﺎﺳﺔ اﻟﻨﻴﺎﺑﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﺑﻤﻨﻊ إﺣﻀﺎر اﻟﻤﻌﺘﻘﻠﻴﻦ إﻟﻰ اﻟﻤﺤﺎﻛﻢ، نظراً لكون اﻟﺒﺖ ﻓﻲ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻤﻌﺮوﺿﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺤﺎﻛﻢ داﺧﻞ آﺟﺎل ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ ﻳﻌﺪ ﺷﺮﻃﺎً أﺳﺎﺳﻴﺎً ﻣﻦ ﺷﺮوط اﻟﻤﺤﺎﻛﻤﺔ اﻟﻌﺎدﻟﺔ.
وشكّل تفعيل اعتماد التقاضي عن بعد سابقة في مسار منظومة العدالة في المغرب، بعدما تم ﺗﺨﺼﻴﺺ ﻗﺎﻋﺎت داﺧﻞ اﻟﻤﺆﺳﺴﺎت السجنية ورﺑﻄﻬﺎ ﺑﻘﺎﻋﺎت اﻟﺠﻠﺴﺎت في عدد من محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية إلكترونياً. وﺗﻘﻮم اﻟﻬﻴﺌﺔ اﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ ﺑﺎﻻﺳﺘﻤﺎع وﻣﺤﺎﻛﻤﺔ اﻟﻤﻌﺘﻘﻞ الموجود داﺧﻞ اﻟﻤﺆﺳﺴﺔ اﻟﺴﺠﻨﻴﺔ ﺑﻌﺪ موافقته وبحضور دفاعه.
وعلى امتداد الأشهر التسعة الماضية، سمحت تجربة المحاكمات عن بعد للقضاء في الاستمرار بواجباته، وعقدت في الفترة ما بين 27 إبريل/ نيسان الماضي و25 ديسمبر/ كانون الأول الماضي 12 ألفاً و248 جلسة عن بعد في مختلف محاكم المملكة، أدرجت خلالها 227 ألفاً و214 قضية، في وقت استفاد منها آلاف المعتقلين الذين تمت محاكمتهم عن بعد، لحمايتهم ﻣﻦ اﻟﻤﺨﺎﻃﺮ اﻟﺼﺤﻴﺔ اﻟﻤﺤﺘﻤﻠﺔ اﻟﻨﺎﺟﻤﺔ ﻋﻦ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻧﻘﻠﻬﻢ إﻟﻰ ﻣﻘﺮات اﻟﻤﺤﺎﻛﻢ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ اﻟﻈﺮوف اﻻﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ، وفق معطيات كشف عنها أخيراً المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
كذلك ساهمت تجربة التقاضي عن بعد في الإفراج عن 7297 معتقلاً حتى 18 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إما بسبب التصريح ببراءتهم أو تمتيعهم بالسراح المؤقت أو تخفيض العقوبة السجنية الصادرة في حقهم، بحسب ما كشفت وزارة العدل المغربية.
وفي الوقت الذي اعتبر فيه المجلس الأعلى للسلطة القضائية أن حصيلة تسعة أشهر من تفعيل المحاكمات عن بعد متميزة نظراً إلى الأرقام المسجلة، مؤكداً استمرار انخراطه في التجربة في سائر الدوائر القضائية لضمان استمرار المحاكم في القيام بمهامها الدستورية وتكريس الحق في محاكمة عادلة داخل آجال معقولة، ما زال الجدل يثار في الأوساط الحقوقية والقانونية بشأن تحقيقها شروط المحاكمة العادلة بشكل آمن.
ويقول رئيس العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، عادل تشكيطو، لـ "العربي الجديد"، إن العمل بآلية المحاكمات عن بعد أبرز بشكل جلي إشكالية جوهرية تنصب أساساً حول مدى ملاءمة هذا الإجراء للضمانات الدستورية المتعلقة بالمحاكمة العادلة، وقانون المسطرة الجنائية المحدد للشروط والإجراءات القانونية الواجبة لضمان حقوق المتهم الموضوع رهن الاعتقال الاحتياطي. ويقول تشكيطو إنّه على الرغم من الأرقام التي تعلن عنها السلطة القضائية في البلاد بين الحين والآخر في ما يتعلّق بالمحاكمات عن بعد، يبدو أنّ مبدأ المحاكمة العادلة ما زال بعيداً عن التطبيق الفعلي والسليم لأسباب غالبيتها تقنية، الأمر الذي يتجسّد في البطء الروتيني الذي تشهده محاكم المملكة بسبب الاعتماد على كل ما هو ورقي، بدءاً من الإجراء الأول وحتى صدور الحكم النهائي.
وبحسب تشكيطو، حرم إجراء التقاضي عن بعد المتهمين الموضوعين رهن الاعتقال من الحديث مع محاميهم، والحق في محاكمة علنية حضورية لتمكين الجميع من سماع ما يدور فيها من نقاشات ومرافعات، والاستماع إلى الشهود داخل المحكمة وأمام هيئة الحكم. كذلك، حرمهم من الحق في المباشرة والمواجهة، بالإضافة إلى ملاحظات الدفاع التي تؤكد أن الإنترنت في مقر اعتقال المتهم رديئة ولا يمكن الإحاطة بشكل جيد بملابسات القضية المعروضة أمام هيئة الحكم. يتابع أن القضاء المغربي لجأ إلى هذه الآلية بشكل اضطراري بعد إعلان الحكومة الدخول في حالة الطوارئ الصحية في 20 إبريل/ نيسان 2020، لافتاً إلى أنه كان من المفترض أن يتوفر في هذه الآلية شرط الجهوزية، لا سيما بعد مرور 7 سنوات على اعتماد ميثاق إصلاح منظومة العدالة. لكن حصل العكس، إذ تبين أن هناك تأخراً وبطئاً في مواكبة الإجراءات المستنبطة من قوة القانون للتطور التكنولوجي وإنشاء محاكم رقمية، وتبين أن اعتماد الرقمنة في المحاكم المغربية ما زال بعيد المنال.
من جهته، يقول رئيس نادي قضاة المغرب، عبد اللطيف الشنتوف، إن "إجراء المحاكمات عن بعد اجتهاد للإدارة القضائية في المغرب طبقه القضاة لاحقاً في المحاكمات الجنائية بشكل جزئي ولا يشمل كل القضايا الجنائية"، مشيراً إلى أن هذا الاجتهاد أملاه ظهور بؤر وبائية في عدد من السجون في شهر مايو/ أيار الماضي، وهو الوضع الذي لا يمكن أمامه نقل أشخاص من السجون إلى المحاكم لأن فيه خطراً على السجناء والمخالطين من الأجهزة الأمنية المكلفة بنقلهم، وكذلك القضاة والموظفين في المحاكم.
ويقول الشنتوف لـ "العربي الجديد": "من هذه الزاوية، يمكن القول إن هذا الاجتهاد جاء لحماية حياة الأشخاص والصحة العامة، وهما مبدآن منصوص عليهما في الدستور المغربي". ويلفت إلى أن "النقاش الذي تلا هذا الاجتهاد بشأن مدى تأثيره على شروط المحاكمة العادلة، هو نقاش مشروع وجدي فعلاً، بسبب عدم وجود نص قانوني يؤطر العملية، وهذا هو جوهر النقاش". يتابع: "يمكن القول إن المحاكمة العادلة تكون بتطبيق شروطها في المضمون بغض النظر عن شكلها. لا علاقة لها بالوسيلة، وإنما بتطبيق مبادئها على أرض الواقع أي من خلال الحضور والعلنية وحماية حقوق الدفاع واحترام قرينة البراءة. بالتالي، لا ينبغي اللجوء إلى توسيع هذا الاجتهاد وأن يُعمل به في إطار ضيق جداً على أن يتم الرجوع إلى النص العادي فور انتهاء سبب الاجتهاد". ويخلص رئيس نادي قضاة المغرب، في ختام تصريحاته، إلى القول إنه في ظل غياب الإطار القانوني، فإن الاجتهاد بعقد محاكمات عن بعد كان ضرورياً لحماية حياة السجناء وكذلك حياة المخالطين لهم.