مجزرة جباليا... منازل ومراكز إيواء مدمرة وجثامين في الشوارع

01 يونيو 2024
هياكل منازل في مخيم جباليا (محمد الحجار)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- انسحاب الجيش الإسرائيلي من مخيم جباليا ترك دماراً هائلاً، مع تدمير أكثر من ألف منزل والبنية التحتية، وملئ الشوارع بجثامين الشهداء وآثار استفزاز كرسم النجمة السداسية على الجدران.
- الدفاع المدني يبحث عن المفقودين والشهداء، مع تأكيد استشهاد أكثر من 80 شخصاً، غالبيتهم من النساء والأطفال، وقصص مؤلمة لعائلات فقدت العديد من أفرادها.
- سكان مخيم جباليا يظهرون عزيمة قوية لإعادة بناء ما دمره الاحتلال، مع قصص صمود وتحدي تحكي عن إصرارهم على إعادة الحياة للمخيم وعدم السماح للدمار بكسر إرادتهم.

عادت أعداد كبيرة من سكان مخيم جباليا في شمال قطاع غزة إلى المخيم بعد انسحاب جيش الاحتلال، وعودة آلياته للتمركز على الشريط الحدودي الشرقي مع بلدة جباليا، ليفاجئهم حجم المجزرة.

شاهد سكان مخيم جباليا الذين عادوا إليه بعد انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي، الخميس الماضي، الكثير من الفظائع التي خلفها الاحتلال بحق منازلهم ومتاجرهم، كما شاهدوا الكثير من جثامين الشهداء ملقاة في الشوارع.
وجد كثير من العائدين منازلهم ركاماً، ووجد آخرون أضراراً أو دماراً جزئياً فقط، مع آثار استفزاز واضحة من جنود الاحتلال لسكان المخيم تمثل في رسم "النجمة السداسية" على ما تبقى من جدران أو أنقاض منازل صمدت في مكانها لعشرات السنين، كما تحسر كثيرون على فقد مصادر رزقهم بعد تدمير سوق المخيم بالكامل، والذي يعتبر من أقدم أسواق القطاع، وهو الأكبر في المخيمات كون مخيم جباليا هو أكبر مخيمات غزة الثمانية.
ودمرت البنية التحتية بشكل شبه كامل في المخيم وفق تقييم جهاز الدفاع المدني، وهي من مسؤوليات وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، والتي طورتها خلال السنوات الماضية عبر برامج ممولة دولياً، وما زالت طواقم الدفاع المدني تبحث تحت الأنقاض عن الشهداء والمفقودين، والتي تقدر أن أعدادهم بالمئات، كما يعتقد أن الاحتلال اعتقل أعداداً من السكان.

دمر جيش الاحتلال خلال الاجتياح أكثر من ألف منزل في مخيم جباليا

وأكد الناطق باسم جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة، محمود بصل، أن أكثر من ألف منزل دمرت بالكامل في منطقة مخيم جباليا، من بينها منازل مكونة من عدة طوابق، بينما بقية المنازل للتدمير الجزئي، والكثير منها لا تصلح للسكن، مشيراً إلى انتشال جثامين أكثر من 80 شهيداً حتى صباح السبت، من شوارع المخيم ومنطقة مشروع بيت لاهيا، معظمهم من النساء والأطفال، ومن بينهم أفراد عائلة عسلية التي تم حصارها لعدة أيام، ثم قتلهم الاحتلال جميعاً بدم بارد، وهم 30 شهيداً، من بينهم 22 طفلاً وامرأة.
فقد محمد عسلية (40 سنة) معظم أفراد عائلته، ووصل مجموع شهداء العائلة إلى أكثر من 100 شهيد خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل، وهي من العائلات المعروفة في بلدة جباليا، والتي نزح أفرادها إلى مخيم جباليا. يقول محمد: "عدد كبير من أفراد عائلتي كانوا لا يستطيعون النزوح جنوباً، أو مغادرة مدارس الإيواء، ونزح الكثير منهم إلى مدرسة في شارع العجارمة شرقي مخيم جباليا حتى يكونوا قريبين من منازلهم في البلدة، ويتمكنوا من العودة إليها عند انسحاب جيش الاحتلال، لكنهم استشهدوا، ومن بين الشهداء أطفال كانت جثامينهم متحللة في أحضان أمهاتهم".

دمر الاحتلال جميع شوارع مخيم جباليا (محمد الحجار)
دمر الاحتلال جميع شوارع مخيم جباليا (محمد الحجار)

يضيف عسلية لـ"العربي الجديد": "كان مخيم جباليا مصدر الأمن لنا منذ الانتفاضة الثانية في عام 2000، وأتذكر عندما كنت مراهقاً، أننا كنا نذهب إلى المخيم عندما كان الاحتلال يقتحم المناطق الشرقية من بلدة جباليا، خصوصاً المناطق الحدودية، وأعتقد أن الاحتلال خطط لتدمير المخيم وقتل كل من فيه. أنتمي إلى عائلة تضم العديد من المسنين، ويعمل أفرادها مزارعين وتجاراً، ومن ثم كان يصعب علينا النزوح. ذهب عدد قليل من الأقارب إلى منطقة غرب مدينة غزة، بينما فضل البقية البقاء في المنطقة، وقد حاصر جيش الاحتلال سكان المخيم من كل الاتجاهات عبر سلسلة من القصف، ما خلف الكثير من الشهداء، وعندما بدأ جهاز الدفاع المدني انتشال الجثامين، وجدت جثامين الكثير من أبناء عمي، ووجدت جثمان شقيقي الشهيد أحمد، والذي عاد لإنقاذ أبناء عمي وأطفالهم، لكن قضى شهيداً معهم".
بين الأنقاض التي عاد لتفقدها، عثر ماجد الخطيب على جثمان والده، والذي تعرف عليه من خلال جلابيته البيضاء التي كان يرتديها، والتي كان يميزها لأنه اشتراها أثناء أداء مناسك الحج قبل عامين.
كان الشهيد الستيني عبد المالك الخطيب يحلم بالشهادة في منزله، ويقول ابنه ماجد: "كان والدي ممن رفضوا ترك المخيم، وقرروا الصمود فيه رغم اشتداد القصف الإسرائيلي المتواصل والعنيف، خصوصاً في الشهور الأربعة الأولى من العدوان. والدي كان يكرر أنه ولد في المخيم، وعاش فيه، ولن يغادره إلّا إلى مدينة يافا التي هجرت منها أسرته عقب النكبة الفلسطينية في عام 1948، أو إلى القبر بعد أن يموت في المخيم".

دمار يفوق الوصف في مخيم جباليا (محمد الحجار)
دمار يفوق الوصف في مخيم جباليا (محمد الحجار)

يضيف الخطيب لـ"العربي الجديد": "لا أعرف ما سبب ارتكاب هذه المجزرة، فمنزلنا دمر عن قصد، ووالدي كان داخله، وكنت قد قررت البقاء معه، لكنه رفض، وطلب مني المغادرة، وكان معه أحد جيراننا الذين رفضوا النزوح أيضاً، لكن والدي استشهد، واستشهد جارنا هذا وزوجته".
ودمر جيش الاحتلال الإسرائيلي جميع مراكز الإيواء في المخيم، سواء المدارس التابعة لوكالة أونروا، أو المنشآت الأخرى التابعة للوكالة، خصوصاً في المنطقة الشرقية للمخيم، ومنطقة وسط المخيم، وكذلك مدارس منطقة الفالوجا، كما طاول الدمار المدارس الحكومية التي كانت في مقدمة المخيم من الجانب الغربي، ويرى كثيرون أن السبب هو محاولة الإجهاز على أي فرصة تسمح بعودة السكان إلى المخيم الذي دمرت منازله ومراكز الإيواء فيه.

عمد الاحتلال إلى تدمير البنية التحتية لمنع السكان من العودة إلى مخيم جباليا

وأكدت وكالة "أونروا" في بيان، صباح السبت، أنه بعد الانسحاب الإسرائيلي من مخيم جباليا، يكون الاحتلال قد ألحق دماراً وأضراراً بأكثر من 170 منشأة تابعة للوكالة كانت تستخدم لإيواء النازحين في مختلف أنحاء قطاع غزة، لكن العدد الأكبر منها كان في مخيم جباليا الذي تضررت جميع منشآت الوكالة فيه، وأشار البيان إلى أنه "نازحون، من بينهم أطفال، قتلوا أثناء بقائهم في مدارسنا التي حاصرتها الدبابات الإسرائيلية في مخيم جباليا".

ودمر الاحتلال أثناء العملية العسكرية السوق المركزي في مخيم جباليا بالكامل، ما أفقد المئات مصادر رزقهم، وخسروا البضائع والبسطات والمحال، وبعضها يتجاوز تاريخ بنائها خمسين عاماً. من بين هؤلاء أحمد المدهون الذي كان يمتلك محلاً لبيع الخضروات ورثه عن والده الذي ورث المحل بدوره عن والده الذي بناه في ستينيات القرن الماضي، وكان أحمد يعمل فيه مع اثنين من أشقائه، أحدهم خريج جامعي، ويمثل مصدر رزق لأسرة مكونة من 16 فرداً.

يبحثان عن بعض المتعلقات بين ركام المنزل (محمد الحجار)
يبحثان عن بعض المتعلقات بين ركام المنزل (محمد الحجار)

يقول المدهون لـ"العربي الجديد": "تغيرت ملامح المخيم تماماً، وكل الطرق تم تدميرها، وتدمير البنى التحتية، والكثير من المحال دمرت وسويت بالأرض، ومن بينها محلي الذي كان فيه بعض البضاعة التي لم أستطيع إخراجها قبل العملية العسكرية، وقد خسرت عدداً كبيراً من الأقارب والأصدقاء".
وعثر سكان مخيم جباليا عند عودتهم على عدد كبير من الجثامين المتحللة والجماجم، خصوصاً في منطقة شرقي المخيم، والتي كانت الجرائم الإسرائيلية مكثفة فيها، كما شاهد مواطنون في تلك المنطقة إعدامات ميدانية لنساء وكبار في السن ممن لم يحالفهم الحظ بالنجاة، أو قرروا البقاء وعدم النزوح من المخيم.
وجرى دفن هذه الجثامين بعد تسجيل مكان العثور عليها، والعلامات المميزة فيها، مثل الملابس أو لون الشعر، حتى يمكن التعرف عليها من طرف العائلات التي نزحت إلى منطقة غربي مدينة غزة. وقد تعرف البعض إلى شهدائهم عبر عدد من التفاصيل، مثل عائلة عبد ربه التي كانت تقيم في شرق بلدة جباليا، وكانوا من بين النازحين إلى المخيم منذ بداية العدوان، وقد طالعت العائلة مجموعة من الجثامين المتحللة حتى تأكدوا من جثمان نجلهم الشهيد.

عادت بلسم القاضي (35 سنة) إلى المخيم لتفقد بعض أغراض أطفالها التي تركتها أثناء النزوح، لكنها صدمت عندما عثرت على جثمان رفيقتها في رحلة النزوح "أم عمر" واثنين من أطفالها، والذين كانوا داخل مدرسة الفالوجا التي تعرضت لقصف متواصل أجبر الكثيرين على مغادرتها.
تقول القاضي لـ"العربي الجديد": "عدنا فوجدنا جميع المدارس مدمرة، يوجد فقط أجزاء من السقف، والكثير من الركام، بينما كل شيء محطم، والشوارع مليئة بالحفر. واضح أنهم كانوا يتعمدون إحداث هذا الحجم من الضرر حتى لا نفكر في العودة إلى المخيم. حاولت التواصل مرات مع رفيقتي في النزوح، لكن كانت الاتصالات مقطوعة، وكنت أتوقع أنها نجت لأنها كانت ترغب في النجاة بأطفالها، لكنهم استشهدوا. حتى لو أنهم دمروا المخيم، فإننا سنعود لبنائه، ولن يكسروا صمودنا".

المساهمون