مجازر مخيم جباليا| فجيعة عائلة أبو نصر واستشهاد ثلاثة إخوة (17)

لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم، ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء.

يحظى العمّ زياد أبو نصر (58 عاماً)، بشعبية كبيرة في مخيم جباليا، فهو أحد الأسرى المُفرج عنهم في تسعينيات القرن الماضي، كما يعدّ من الشخصيات الاجتماعية والنشيطة في المخيم. متزوج بالسيدة حياة (49 عاماً)، لديهما خمسة أبناء، مشعل (26 عاماً)، ريم (25 عاماً)، محمد (22 عاماً)، جنين (19 عاماً)، زكية (13 عاماً).

كانت عائلة أبو نصر تجاورنا في بلوك "6" أو ما يعرف بحي السنايدة، بالإضافة إلى علاقة الصداقة القوية التي تربط بين شقيقاتي وبنات العم زياد، خاصة ريم ومريم، فهما بمثابة التوءمين. مشعل الابن الأكبر لعائلة أبو نصر، صديق الجميع ومحبوب من أبناء المخيم، له طريقة خاصة في التعامل والاحترام، وهو شاب عطوف جداً ويتمتع بأخلاق عالية. يعمل محامياً، كما يعتبر من أبرز لاعبي كرة القدم في المخيم، إذ لعب لصالح نادي خدمات جباليا جناحاً أيمن. تزوّج في أكتوبر عام 2022 من أنسام حمد (24 عاماً) وأنجبا طفلاً قبل الإبادة بشهرين، أطلقا عليه اسم زياد نسبة لجده.

أما جنين فقد اختار لها العم زياد هذا الاسم بعد انتهاء حصار جنين عام 2002، أو ما يعرف بعملية السور الواقي الذي نفذها الزعيم الإسرائيلي إرئيل شارون على الضفة المحتلة، والتي من بين أبجدياتها، القضاء على بيئة المقاومة تحديداً في مخيم جنين.

عصر يوم 31 أكتوبر 2023، وكما هو حال معظم عوائل حي "السنايدة" كان العم زياد وعائلته وأقارب له يحتمون في منزله المكون من طابقين. تقريباً كان في كل بيت 24 شخصاً، أغلبهم نساء وأطفال. كان منزل أبو نصر الوحيد الذي نجى أغلب أفراده، بعد ما حوّلت إسرائيل الحي إلى حفرة كبيرة بعد ما أسقطت ست قنابل تزن كل قنبلة طنّين من المتفجرات، واستشهد قرابة 600 شخص هناك. ارتقى شهيداً في تلك الهجمة الشابة جنين، فيما أصيب أغلب من كان في المنزل بجروح متفاوتة. بعدما اطمأن العم زياد على الجميع، خاصة الرضيع زياد، جرى تأمينهم في منزل عائلة عنبر وهو المنزل الذي يبعد قرابة 50 متراً عن المذبحة التي وقعت في حي السنايدة، ثم جرى بعدها دفن جنين في مقبرة بيت لاهيا، غرب مخيم جباليا.

لكن في اليوم التالي، أي في ليلة 1 نوفمبر 2023، بينما كانت العائلة تحتمي في منزل عنبر المكون من أربعة طوابق، ألقت طائرة حربية قنبلة عليه، فارتقى ثلاثة شهداء من عائلته، كما استشهدت زكية الابنة الصغرى للعم زياد. نجت عائلة أبو نصر للمرة الثانية من الموت المحقق في غضون 24 ساعة، وفي كل ضربة كان يُقتل واحد منها، حمل العم زياد ابنته زكية، وفتح قبر جنين ووضع الشقيقتين إحداهما بجانب الأخرى في قبر واحد. رغم صغر سن زكية، إلا أن شخصيتها كانت متفردة، كانت تحلم بأن تصبح مذيعة تلفزيونية، حتى إنها كانت تتدرب كثيراً أمام المرآة، وحين تنتهي تجلس أمام عائلتها وتلقي عليهم النشرة الخاصة بها، ببراءة الطفولة وهمة الطامحين.

في نهاية عام 2023، بعد ما ألقى الجيش الإسرائيلي منشورات ورقية من الطائرات الحربية، تفيد بإخلاء جباليا، بدأ بعض سكان المخيم بالنزوح إلى الأحياء القريبة، مثل حي الشيخ رضوان ومناطق التفاح وحي الدرج. وبعد ساعات أغرقت الطائرات الحربية والمدفعية والطائرات المسيرة، المخيم بمئات القذائف والصواريخ على منازل المخيم المغطاة بالصفيح، وعلى مدار 48 ساعة لم تتوقف آلة النار على أهالي المخيم.

قضايا وناس

التحديثات الحية

مجازر مخيم جباليا| حكاية الناجي الوحيد من عائلة عويضة (16)

في تلك الظروف تفرقت عائلة أبو نصر، منهم من احتمى في مستشفى كمال عدوان، وجزء منهم في مشفى الإندونيسي، فيما أخذ مشعل زوجته وطفله واحتمى في منزل أقاربه في حي الدرج في مدينة غزة. صباح يوم 13 ديسمبر 2023، في حين خرج مشعل لشراء عبوة حليب لرضيعه، سقطت عليه قذيفة مدفعية وارتقى شهيداً على الفور.

تقول ريم شقيقة مشعل والابنة الثانية لزياد: "قتلت إسرائيل عائلتي ببطء، كنت أتمنى أن تأخذهم دفعة واحدة، لكنها جرعتنا آلام الفقدان على مراحل، واليوم وبعد مرور ذكرى رحيل إخوتي الثلاثة، لن ننسى ما حدث إلى الأبد".

بعد هذه الفجيعة، وخلال الحملة الإسرائيلية العسكرية البرية والبحرية والجوية على مخيم جباليا، قرر العم زياد تأمين نزوح زوجته ومن تبقى من أبنائه إلى حي الشيخ رضوان حرصاً على سلامتهم، فيما بقي هو صامداً في المخيم لفترة، قبل أن يلتحق بهم في الحي المحاذي للمخيم غرباً.