استمع إلى الملخص
- يذكر الكاتب قصة إحباطه قبل ثماني سنوات عندما فشل في تجديد وثيقة سفره، وكيف ساعدته والدته وجارهم العم محمد أبو القمصان في الحصول عليها.
- العم محمد أبو القمصان فقد معظم أفراد عائلته في مذبحة "حي السنايدة"، ونجا منها وسام، الطبيب فراس، والمغتربان أسامة وشقيقته.
لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا، شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم. ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء.
قبل ثماني سنوات تقريباً، أصابني إحباط شديد، حين فشلت في تجديد وثيقة السفر الخاصة بي. توجّهت إلى أكثر من مكتب متخصص في هذا المجال، وأجريت عدة اتصالات، لكن دون جدوى. كنت مدعواً إلى المشاركة في دورة صحافية في العاصمة اللبنانية بيروت، ولكن الفرصة ضاعت مني، علماً أنها المرة الأولى التي كنت سأخرج فيها من أكبر سجن في العالم.
شعرت أمي بمدى حزني وحملت دون علمي الأوراق المطلوبة، واتجهت إلى مكتب العم محمد أبو القمصان المكنى "أبو فراس"، إذ لديه مكتب خاص بإرسال واستقبال وترتيب الأوراق والوثائق المدنية، ومن بينها وثائق السفر. وفي أقل من أسبوعين، أحضر لي وثيقة السفر الجديدة إلى المنزل.
أبو فراس (60 عاماً) كان جاراً لنا في حيّ السنايدة "بلوك 6" الواقع في عمق مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، متزوج أمينة عطا الله (58 عاماً)، لديه خمسة ذكور وثلاث إناث، لا يتوانى عن تقديم المساعدة في ما يتعلق بالأوراق المدنية، ولا يرفض طلباً لأحد. عائلته معروفة بتفوق أبنائها، نسميها "عائلة الأطباء". فالابن الأكبر فراس (35 عاماً) يعمل طبيباً عاماً في مستشفى الأقصى وسط قطاع غزة، أما شقيقته فتدرس الطب في مصر، فيما يشغل وسام (30 عاماً) منصب ضابط شرطة بغزة. في حين أن أسامة (27 عاماً) يشتغل ويكمل دراسته في مجال التمريض في العاصمة التركية.
يتحدر أبو فراس من بلدة دير سنيد المحتلة، من بين العوائل الأربعين التي مُسح معظم أفرادها من السجل المدني في مذبحة "حي السنايدة" التي وقعت عصر 31 أكتوبر 2023. في تلك الأثناء، كانت شبكة الاتصالات والإنترنت مقطوعة عن مناطق شمال غزة، عزلت إسرائيل تلك المنطقة عن العالم، واستفردت بها، ولحسن الحظ كان لدي بعض الأصدقاء، زودوا هواتفهم بشرائح إلكترونية تمكنهم من تفعيل الإنترنت لساعات محدودة، ولصعوبة الأحداث كانوا بالكاد يمررون لنا خبراً نصياً مقتضباً.
تلقيتُ منهم قائمة أولية بأسماء الشهداء. بعد ساعات استقبلت مكالمة من الصديق أسامة، الابن الثالث للعم أبو فراس، كان يردد سؤالاً واحداً: "حمزة بالله عليك ما تكذب عليا، كلهم راحوا؟، ضل حدا؟ ريّحني بالله عليك". لم أكن أعرف كيف سأخبر شاباً في ريعان شبابه وفي غربته، بأن معظم عائلته أصبحت في خبر كان. أنهيت المكاملة على أن أعود مباشرة للتأكد من الشهداء.
بعد حين أرسلت له منشوراً فيسبوكياً لأحد أقاربه ينعى شهداء عائلة أبو القمصان، فاتصل بي أسامة مباشرة، وانهار بالبكاء وبكينا معاً على فجيعة مشتركة. في الذكرى الأولى وخلال عزمي على كتابة قصص الشهداء والناجين من أبناء مخيم جباليا، تواصلت مع أسامة، لكنه اعتذر عن عدم إجراء أي مقابلة، وقال لي في حديث مقتضب: "لا أستطيع تقليب صور أفراد عائلتي، ولا أحب تذكرهم، كل ما حاولت أشعر بفوبيا أشبه بانهيار شديد".
ضمت قائمة الشهداء، الأب محمد أبو القمصان (60 عاماً)، الأم أمينة عطا الله (58 عاماً)، الأبناء: نبوغ (25 عاماً)، واصل (21 عاماً)، مهند (17 عاماً)، أبرار (13 عاماً). أما من تبقى منهم، فهم الضابط وسام (30 عاماً) الذي نجا من تلك المجزرة، الطبيب فراس (35 عاماً) الذي كان يمارس مهامه في إسعاف الجرحى ومداواة المرضى داخل المشفى، ثم المغتربان أسامة (27 عاماً)، وشقيقته التي تكمل دراسة الطب في مصر (32عاماً).