تعمل ألينا غولوفكو ناشطة إنسانية، وهي أحد مؤسسي الصندوق الخيري "العمل الطيب"، وتصف الوضع في المناطق التي غمرتها المياه بعد تدمير سد محطة كاخوفكا الكهرومائية على نهر دنيبرو، بأنه "كارثة واسعة النطاق". موضحة لـ"العربي الجديد"، أن "منسوب المياه يتراوح ما بين 5 إلى 6 أمتار، وهو يغمر المنازل الريفية الصغيرة في بعض المناطق، كما غمرت قرى الخط الساحلي بشكل كامل، وغرق حي أوستروف (الجزيرة) في مدينة خيرسون بشكل كامل، وليست هناك إمكانية للوصول إلى القرى، إذ إن المياه غمرت كل الطرق".
وتضيف غولوفكو عن أوضاع السكان المحليين: "بدأت عملية الإجلاء من الضفة اليمنى لنهر دنيبرو، حيث يتم تعبئة القوارب بالمواد الغذائية والماء على سبيل الاحتياط. تبحر القوارب وفق الإحداثيات، وينزل المتطوعون إلى أسطح المنازل، منادين على السكان، ويساعدونهم في عبور النهر، ثم يسكنونهم في أحياء خيرسون".
بحسب بيانات وزارة الداخلية الأوكرانية، فإن 14 بلدة تقع على ضفة نهر دنيبرو الغربية، يقطنها نحو 16 ألف شخص، تعرضت للغرق، بالإضافة إلى عدد مماثل من البلدات في الضفة الشرقية، فيما حذر الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، من مواجهة 80 بلدة خطر الغرق.
وحول الحالة النفسية للسكان، تقول غولوفكو: "يبكي الناس، ويصاب بعضهم بالهستيريا، لكنهم يواصلون الكفاح مدركين أن الوقت ثمين للغاية، كما يقومون بكل ما بوسعهم من أجل مساعدة الآخرين". وحول آلية التعامل مع الكارثة، توضح: "وقعت الفاجعة ليلة 5 يونيو/حزيران، فقمنا بتعبئة حافلة بمساعدات إنسانية ضمت المياه والخضروات والمستلزمات الطبية وبعض المأكولات سريعة التحضير، وبحلول منتصف اليوم توجهنا إلى خيرسون. اشترينا قارباً ذا محرك قوي، واستخدمناه لإجلاء العالقين، وتوصيل المياه لمن كانوا موجودين فوق أسطح المنازل".
غمرت مياه السد المنهار البلدات الواقعة على ضفتي نهر دنيبرو
وتقر الناشطة الإنسانية بأن الحكومة الأوكرانية تقدم عوناً للمنكوبين، بما في ذلك تخصيص عربات برمائية وقوارب للبحث عن المنكوبين، وإجلائهم إلى مكان آمن يتوفر لهم فيه المأوى والغذاء، كما يتلقى صندوق "العمل الخيري" عوناً من منظمة Ukraine TrustChain الأميركية، والتي وفرت كلفة شراء الوقود والمياه.
بدوره، يتوقع مدير معهد القضايا المائية التابع للأكاديمية الوطنية الأوكرانية للعلوم الزراعية، ميخائيل ياتسيوك، أن تتأثر جميع مناطق أوكرانيا بتداعيات تدمير المحطة الكهرومائية، لكن يستدرك أن الأضرار ستكون بالغة في المناطق الجنوبية نظراً لتدمير المزارع والمساكن فيها.
وعلى إثر الكارثة، زادت صعوبة الحصول على إمدادات المياه في مدينة "كريفوي روغ"، وهي مسقط رأس الرئيس الأوكراني، إذ كانت المدينة تحصل على 70 في المائة من احتياجاتها المائية من بحيرة كاخوفكا الصناعية، ومع تراجع ضغط ضخ المياه، فلن تصل المياه سوى إلى الطوابق السفلى من المباني، وفي بعض بلدات ضواحي المدينة، لن تتوفر المياه سوى في ساعات الصباح الأولى.
من جانبه، يصف مدير شركة "أوكر غيدرو إنيرغو" للطاقة الكهرومائية، إيغور سيروتا، الواقعة بأنها "عمل إرهابي روسي"، مشيراً في تصريحات صادة عن المكتب الصحافي للشركة، إلى أن "المحطة الكهرومائية باتت غير قابلة للترميم. بعد انتهاء الاحتلال، سيتم غلق بحيرة كاخوفكا الصناعية لاستعادة المنسوب اللازم للمياه، والبدء في بناء محطة كهرومائية جديدة في الموقع ذاته. يجب أولاً توفير المياه للسكان، ثم البحث بالتوازي عن حلول فنية لبناء محطة جديدة".
ويلفت سيروتا إلى أن "عملية بناء محطة كهرومائية جديدة سيستغرق ما لا يقل عن خمس سنوات، وبتكلفة مليار يورو وفق أدنى تقدير. شبكة الكهرباء الأوكرانية، وخزانات المياه على نهر دنيبرو لم تتأثر بأي شكل من الأشكال بتدمير محطة كاخوفكا الكهرومائية كونها كانت متعطلة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكن المشكلة الأكبر هي التداعيات البيئية لتدمير السد، فتوربينات المحطة ومحولاتها كانت تضم احتياطيات من زيوت المحركات تصل إلى 450 طناً، وقد تسرب أكثر من 150 طناً منها بالفعل إلى النهر، وسيذهب القسم الأكبر منها إلى البحر الأسود".
في موسكو، يحمّل الخبير الاقتصادي، ليونيد خازانوف، أوكرانيا مسؤولية تدمير سد كاخوفكا، قائلاً لـ"العربي الجديد": "الإجراء الممكن الوحيد لمنع تكرار كوارث تكنولوجية أثناء العملية العسكرية الخاصة هو استسلام القوات المسلحة الأوكرانية، حيث لا أمل في أنها ستتمكن من تأمين المنشآت المعقدة من وجهة النظر البيئية".
وفي الوقت الذي يحمل فيه كبار المسؤولين الروس حكومة كييف مسؤولية تدمير سد كاخوفكا، شكك عدد من المدونين الروس عبر مواقع التواصل الاجتماعي في دقة رواية حكومتهم. وفي مقطع فيديو بعنوان "مأساة محطة كاخوفكا الكهرومائية. كيف يعمل محترفون روس بالأراضي المحتلة؟"، وصف المدون المعارض، مكسيم كاتس، الواقعة بأنها "أكبر كارثة بيئية في أوروبا منذ حادثة محطة تشيرنوبيل النووية" التي وقعت في عام 1986، مرجحاً أن تكون الكارثة ناجمة عن سوء تشغيل المحطة في ظل استمرار القتال.
وفي المقطع الذي حظي بنحو مليون مشاهدة على موقع "يوتيوب"، لفت كاتس إلى أن "القوات الروسية موجودة حالياً في بلد متقدم تكنولوجياً يزخر بمواقع هندسية مركبة مثل محطات الكهرباء والمصانع والمحولات وغيرها من المنشآت التي تتطلب صيانة يومية مؤهلة، وتتحول من دون الصيانة إلى مصدر للخطر القاتل، فمن هو مهندس الصيانة الذي سيخاطر بالذهاب إلى خط التماس؟".
بدأ تشغيل محطة كاخوفكا الكهرومائية بكامل طاقتها في عام 1959
وكان القائم بأعمال حاكم مقاطعة خيرسون الموالي لروسيا، فلاديمير سالدو، قدر حجم الخسائر الأولية المباشرة في المباني السكنية بالمناطق المغمورة في قسم المقاطعة الخاضع لسيطرة موسكو بأكثر من 1.5 مليار روبل (18 مليون دولار)، بينما لن يتسنى تقييم الخسائر على وجه الدقة إلا بعد انحسار المياه.
وكتب سالدو على حسابه في موقع "تيليغرام": "في المرحلة الأولى من إزالة التداعيات، سنقوم بتدارك الخلل في إمدادات المياه والطرق والبنية التحتية الحيوية. حجم العمل كبير، ولذلك من المبكر الحديث عن رفع نظام الطوارئ". وأفاد بإجلاء 5 آلاف شخص، بمن فيهم 178 طفلاً، من نوفا كاخوفكا، وأليوشكينسكي، وغولوبريستانسكي، فيما أصبح نحو ألف ممن تم إجلاؤهم موجودين في مراكز الإيواء المؤقت، وأودع 62 شخصاً تم إجلاؤهم من المناطق المنكوبة في مستشفيات، ولقي سبعة أشخاص مصرعهم.
ولما كان يتم سحب المياه إلى قناة شمال القرم من أمام السد، فإن تدميره يهدد إمدادات المياه إلى شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في عام 2014، وذلك بالتزامن مع بدء الموسم الزراعي والسياحي.
وتعد محطة كاخوفكا الكهرومائية الأوكرانية هي الدرج السادس (الأسفل والأخير) من سلسلة المحطات الكهرومائية على نهر دنيبرو، وظلت حتى وقت قريب أحد أهم عناصر منظومة الطاقة الموحدة في أوكرانيا. تقع المحطة على بعد 100 كيلومتر من موقع صب نهر دنيبرو في البحر الأسود، وعلى بعد 60 كيلومتراً من مدينة خيرسون التي انسحبت القوات الروسية منها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ويبلغ ارتفاع السد 16.5 متراً، وكان يتم تشغيله بواسطة 28 صماماً، وتبلغ القوة القصوى للمحطة 335 ميغاوات، وتم تشغيلها بكامل طاقتها في عام 1959، وسط سعي سلطات الاتحاد السوفييتي لإنجاز أكبر عدد ممكن من المشاريع العملاقة. وأتاح تشغيل المحطة رفع منسوب المياه في نهر دنيبرو بمقدار 16 متراً، وإتاحة القدرة على النقل الملاحي بين خيرسون وزاباروجيا على مدار السنة، وكذا إنعاش الزراعة في القرم بواسطة منظومة متفرعة من القنوات.
وتبلغ سعة بحيرة كاخوفكا الصناعية 18 كيلومتراً مكعباً من المياه، ما يجعلها الكبرى مقارنة مع البحيرات الواقعة أعلى مجرى النهر مثل كييفسكويه، وكريمينتشوغسكويه، وكانيفسوكويه. لكن هذا الكم الهائل من المياه العذبة تحول من مصدر رخاء إلى عنصر قلق بعد بدء الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/شباط من العام الماضي، وسط تحذيرات متكررة من وقوع المحطة الكهرومائية في دائرة المعارك.