وجدت المنظمات الأممية العاملة في اليمن نفسها في ورطة، فالكرم الكبير الذي أبداه المجتمع الدولي سابقاً، بدأ بالتلاشي... ويوماً بعد آخر، ينزلق ملايين اليمنيين نحو المجاعة والأوبئة الفتاكة
في الأسابيع الماضية، تعالت الصيحات الأممية تجاه الوضع الإنساني في اليمن، كما استمرت التحذيرات من مجاعة محتملة خلال ما تبقى من العام 2020. مع ذلك، لا يكترث مجتمع المانحين لمأساة اليمنيين المتفاقمة، خصوصاً في ظلّ إحجامه عن الوفاء بالالتزامات التي قطعها من قبل للأمم المتحدة.
في مطلع العام الجاري، أعلنت الأمم المتحدة، أنّ خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن تحتاج إلى 3.2 مليارات دولار أميركي، مع اتساع رقعة الفقر لتشمل ثلثي السكان، وحتى مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لم تتلق المنظمات الإغاثية الدولية سوى مليار و300 مليون دولار، أي أقل من نصف حجم التعهدات المطلوبة. وبعدما كانت المواد الإغاثية التي تقدّمها منظمات أممية هي الترياق الذي أنقذ ملايين اليمنيين من مجاعة محتملة، طوال سنوات الحرب الماضية، تتجه الأمم المتحدة لتقليص عملياتها الإغاثية من جراء نقص التمويلات اللازمة من مجتمع المانحين. وبالفعل، أعلن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في اليمن، في أكتوبر الماضي، عن إغلاق 15 من أصل 41 برنامجاً إنسانياً رئيسياً للأمم المتحدة، وقال إنّ البرامج المتبقية، عُرضة للمصير نفسه في الأسابيع المقبلة ما لم تتلقَّ تمويلاً إضافياً.
وبحسب تقرير أممي، فقد تأثر نحو 9 ملايين شخص من جراء تقليص المساعدات الغذائية ما بين إبريل/ نيسان وسبتمبر/ أيلول الماضيين، فيما سيتضرر 1.37 مليون شخص آخر حتى ديسمبر/ كانون الأول المقبل ما لم يجرِ تأمين تمويل إضافي. وتقول الأمم المتحدة، إنّ تخفيض خدمات التغذية منذ يوليو/ تموز الماضي، أدى إلى تضرر أكثر من 334 ألف امرأة حامل ومرضعة، وإذا لم يوفر تمويل إضافي، فقد تمنع هذه الخدمات عن 530 ألف طفل ما دون الثانية من العمر، بحلول ديسمبر المقبل.
في موقف يكشف حجم الذهول الأممي، قالت منسقة الشؤون الإنسانية باليمن، ليز غراندي، في آخر تقرير عن الوضع الإنساني باليمن، أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي: "كان المانحون كرماء بشكل لا يصدق خلال فترة الحرب، إذ قدموا مليارات الدولارات لدعم الأشخاص الذين ليس لديهم مكان يذهبون إليه ولا أحد آخر يلجؤون له، لكنّنا نعاني من عجز كبير هذا العام، ونحن بعيدون جداً عما نحتاج إليه، إلى حدّ كبير".
غراندي، دعت في التقرير الذي اطلعت عليه "العربي الجديد" أطراف النزاع إلى رفع الحصار، وبذل كلّ ما في وسعها للتقليل من آثار الحرب على الأسر والمجتمعات المحلية، كما طالبت الجهات المانحة بأن تتضامن مع الشعب اليمني، و"أن تبحث عميقاً لتستمر في توفير الموارد التي نحتاج إليها". ووفقاً للمسؤولة الأممية، فاليمن أسوأ أزمة إنسانية في العالم، ومع ذلك "ليس لدى المنظمات الإنسانية الموارد الكافية التي تحتاجها لإنقاذ الأشخاص الذين يعانون وسيفقدون حياتهم إذا لم نمّد لهم يد العون، فعواقب نقص التمويل هائلة ومدمرة". وأبلغ عدد من المنظمات الأممية بالفعل، وعلى رأسها برنامج الأغذية العالمي، مئات الأسر التي كانت تتلقى سلّة غذائية شهرية منذ مطلع الحرب، أنّها لم يعد بمقدورها مساعدتهم بنفس الوتيرة السابقة، لعدم امتلاك التمويل الكافي. وفي هذا الإطار، تقول الخمسينية مريم العديني، لـ"العربي الجديد"، إنّ ممثلي المنظمات الإغاثية في الحي السكني وسط مدينة تعز، أبلغوهم أنّه "سيتم صرف السلّة الغذائية المعتادة كلّ 60 يوماً، وليس بشكل شهري كما كان معمولاً به منذ مطلع الحرب".
وألقى مسؤولون أمميون، باللوم وراء انحسار التمويلات الدولية للبرامج الإنسانية على التدخلات الحوثية التي أعاقت الأعمال الإغاثية في صنعاء ومناطق سيطرة الجماعة. وطوال الشهرين الماضيين، اتهم منسق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة، مارك لوكوك، جماعة الحوثيين بحرف مسار المساعدات إلى جبهات القتال أو أشخاص غير مستحقين، فيما اتهمت منظمات محلية، الجماعة التي تهيمن على المناطق السكنية الأكثر كثافة باليمن، بنهب مخازن برنامج الأغذية العالمي وبيع المواد الإغاثية بالسوق السوداء. ولا تبدو السلطات الحوثية مكترثة للتحذيرات الأممية بالكفّ عن التدخل في عملها، فقد أعلن ما يسمى مجلس إدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية التابع للجماعة، في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، عن إقرار "آلية تنسيق جديدة مع المنظمات" تشير إلى فرض قيود وتشديدات أكبر على العمل الإغاثي. ويبدو أنّ الصدام الحوثي مع المنظمات الأممية سيقود لمزيد من تعقيد الأوضاع الإنسانية على الأرض، خصوصاً مع اتهامات غير مسبوقة ساقها المسؤول بالمجلس الحوثي عبد المحسن طاووس، للمنظمات الأممية بإيصال شحنة زيت طبخ منتهية الصلاحية إلى ميناء الحديدة، وكذلك قيامها باستيراد بذور تالفة تؤدي لإتلاف التربة، على حد قوله. ووفقاً لوسائل إعلام حوثية، فقد قررت السلطات التابعة للجماعة، بناء على تلك الاتهامات التي لم يتسن لـ"العربي الجديد" التحقق منها، إجبار المنظمات على شراء البذور من داخل اليمن وعدم استيرادها من الخارج. وفي مسعى منها لدحض الاتهامات التي ساقتها الأمم المتحدة لها بالاستحواذ على المساعدات، ردت وزارة التخطيط الحوثية، في مطلع نوفمبر الجاري، باتهامات مماثلة، وتحدثت عن "فساد حقيقي في المشاريع الأممية، وذلك بذهاب الأموال التي يقدمها المجتمع الدولي لأشخاص وليس للمواطنين والمجتمع، وهو ما يعني انعدام النتائج الملموسة على الأرض".
وعلى الضفة الأخرى، تمضي الحكومة اليمنية الشرعية، هي الأخرى، في تطبيق استراتيجية جديدة في تعاملها مع المنظمات الدولية خلال العام المقبل بمناطق سيطرتها، فقد طالب وزير التخطيط بالحكومة المعترف بها دولياً، نجيب العوج، في الأسبوع الأول من نوفمبر الجاري، بعقد مراجعة استراتيجية بشكل دوري مع إشراك الحكومة في الكيفية التي تدار وتمول فيها خطة الاستجابة الإنسانية. وبالإضافة إلى القيود الحوثية وهي الأكثر عرقلة للعمل الإنساني، كشفت الحكومة اليمنية، للمرة الأولى عما أسمتها "تحديات فنية للعمل الإنساني" أبرزها ضعف تشخيص الوضع الإغاثي، وضعف آليات الشفافية والرقابة والتقييم، وارتفاع الكلفة التشغيلية، وعدم التزام بعض المنظمات بخطة الاستجابة المتفق عليها. وللمرة الأولى، تتفق الحكومة الشرعية والحوثيون على أنّ النفقات التشغيلية الكبيرة للمنظمات الأممية هي التي تلتهم تمويلات المانحين. لكنّ مصدراً أممياً يقول لـ"العربي الجديد" إنّ النفقات تصل إلى 35 في المائة فقط، بالرغم من أنّ نسبة المخاطر العالية للعمل من داخل اليمن تستوجب نفقات وحماية أمنية وسيارات مدرعة أكبر من ذلك.
وخلافا للمنظمات الأممية، تقوم هيئات سعودية وإماراتية، بتوزيع مساعدات غذائية للمتضررين من الحرب في المدن الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً أو الفصائل المسلحة الحليفة للدولتين، وبالإضافة إلى اتهام تلك الجهات باستغلال معاناة السكان لتحقيق أهداف سياسية أو الاستعراض الإعلامي، يقول ناشط حقوقي في عدن، طلب عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد" إنّ المنظمات السعودية والإماراتية تفتقر لآلية تقصي الاحتياجات الرئيسية في المجتمعات الفقيرة، إذ تقوم مثلا بتوزيع كميات كبيرة من التمور أو المعلبات الغذائية التي تحوم شكوك حول تاريخ صلاحيتها، من دون الاهتمام بمواد غذائية تعد ركيزة لمائدة اليمنيين مثل مادتي الأرزّ والدقيق. وانحسرت التدخلات الإماراتية الإغاثية بشكل لافت في عدن والضالع ولحج وأبين منذ سحب القوات الإماراتية من عدن أواخر 2019، ويقول عبد الله سالم وهو من سكان مدينة خور مكسر بعدن لـ"العربي الجديد"، إنّ معونات الهلال الأحمر الإماراتي، التي كان يغلبها العمل الاستعراضي، اختفت بشكل تام، وإنّ السعودية التي وعدت بتغطية العجز، لم تفِ بتلك الوعود.
وخلافاً لتقليص المواد الغذائية، يبدو أنّ شح التمويل والصراع الدائر بين المنظمات والسلطات الحاكمة على الأرض في صنعاء وعدن، سيترك اليمنيين فريسة للأوبئة والأمراض القاتلة خلال الفترة المقبلة، تحديداً في الفترة من ديسمبر/ كانون الأول حتى مارس/ آذار المقبلين، في ظل تدهور الخدمات الصحية وعودة شلل الأطفال وفيروس كورونا. وقال تقرير أممي، اطلعت عليه "العربي الجديد"، إنّ الوكالات الإنسانية، اضطرت خلال الفترة بين إبريل/ نيسان وأغسطس/ آب الماضيين، إلى قطع الخدمات الصحية في أكثر من 300 مرفق صحي، ووقف الخدمات المتخصصة لمئات الآلاف من النساء والفتيات المصابات بصدمات نفسية واللواتي يعانين من ضعف شديد. وفي مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي، أعلنت منظمة الصحة العالمية، أنّها أنهت تقديم حزمة الحدّ الأدنى من الخدمات في 121 مرفقاً، ما أدى إلى تضرر مليون شخص، بالإضافة إلى حرمان 1.3 مليون شخص من الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية المنقذة للأرواح، كما اضطرت لوقف تقديم الحوافز لأكثر من 1800 موظف في المجال الطبي.
وعلى الرغم من ضعف التدخلات الأممية في الجانب الصحي منذ مطلع العام الجاري، فإنّ مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، أعلن أنّه إذا لم يتم تلقي التمويل المطلوب خلال الشهرين الأخيرين من العام، فسوف يتوقف التأهب والترصد وتجهيز الإمدادات مسبقاً للاستجابة لتفشي الأوبئة، بما فيها الدفتيريا وحمى الضنك، في 23 محافظة يمنية. وبحسب الأمم المتحدة، سيتم إغلاق أكثر من 60 في المائة من 174 مرفقاً لعلاج الكوليرا. ولن تقتصر الانتكاسة الصحية عند ذلك، بل وفقاً للأمم المتحدة، ستتوقف جميع فرق الاستجابة السريعة في جميع مديريات اليمن الـ333 عن أداء المهام الأساسية، من بينها التحقق من الحالات ومراقبة انتشار الأمراض، وهو ما سيؤدي إلى تأثر ما يقرب من 18 مليون شخص، بمن فيهم 6 ملايين طفل بحاجة ماسة إلى التطعيم ضد الأمراض الفتاكة مثل الحصبة وشلل الأطفال.