لن يحتفل الإيرانيون هذا العام بليلة "يلدا"- لمّ الشمل والوصال، كما جرت العادة، بعدما فرض كورونا تباعداً بين الناس وحدّ من تجمّع العائلات، رغم دلالاتها الكثيرة بالنسبة إليهم. إلا أن هذا لن يلغي إحياءها
ازدحام جديد تشهده الأسواق والشوارع الإيرانية خلال الأيام الأخيرة استعداداً للاحتفال بليلة "يلدا" أو ليلة "جله" في إيران، التي توافق ليلة الثلاثين من الشهر الإيراني "آذر" في كل عام (21 ديسمبر/ كانون الأول)، يليها اليوم الأول من الشهر الإيراني دي، أي أول أيام فصل الشتاء. وتعتبر هذه الليلة ثاني أهم مناسبة تراثية تاريخية للإيرانيين بعد أعياد النوروز، أي رأس السنة الفارسية الجديدة. ينتظرونها بشغف مع اقتراب الخريف من نهايته لولادة جديدة للنور بعد هزيمة الظلام، وفقاً للأساطير الإيرانية التي تروي قصصاً كثيرة عن الصراع بين آلهة النور والظلام. وتتحدث تلك الأساطير عن أن الشمس تهزم ليلاً مظلماً هو الأطول لتولد من جديد.
يلدا هي أطول الليالي ويومها هو الأقصر، تطول بعدها الأيام وتقصر الليالي. لذلك، تعد ليلة الانقلاب الشتوي في إيران التي يتطابق تقويمها مع الانقلابات الطبيعية، فيبدأ نوروزها (عيد النوروز) مع الانقلاب السنوي الربيعي، وتبدأ يلداها مع الانقلاب الشتوي. ولكلمة يلدا جذور سريانية تعني الولادة، أي ولادة الشمس من جديد، تخبر بها ليلة يلدا التي يحييها الإيرانيون بعد نحو أسبوع من التحضير الجيد لها، سواء أكانوا فقراء أو أغنياء، من خلال شراء ما تستلزمه هذه المناسبة التاريخية، فيقيمون فيها طقوساً فيها دلالات إنسانية توارثتها الأجيال منذ آلاف السنين.
في هذه الليلة، يُحضّر الإيرانيون مائدة يلدا وتضم أطعمة لها رموز ودلالات خاصة. من أساسياتها البطيخ والرمان والمكسرات والحلويات. ويطغى اللون الأحمر على المائدة كونه يرمز إلى بزوغ الفجر نهاية الليلة وإلى الفجر الجديد. ويتم تقطيع الفاكهة، وخصوصاً البطيخ، الذي يعد أساسياً بين الفاكهة الصيفية، بأشكال جميلة تزين المائدة. أما المكسرات والحلويات، فهي للتسلية وقضاء الليلة الأطول مع الأحباب.
لكن تناول البطيخ والرمان في هذه الليلة ليس لأنهما رمزان فحسب، بل لأن الإيرانيين القدامى المزارعين كانوا على قناعة بأن أكل البطيخ في الشتاء يمنع المرض والزكام طيلة الفصل الآتي (الشتاء)، فضلاً عن أنهم كانوا يرون أن تناول الرمان أيضاً في هذه الليلة يمنح الإنسان طاقة جديدة، كونه يرمز إلى السعادة والفرح والولادة. بالإضافة إلى تلك الأساسيات المشتركة، فلكل من القوميات والمناطق الإيرانية أيضاً أساليبها الخاصة للاحتفال بالمناسبة، فيضيفون أشياء أخرى عليها ويطبخون طعاماً خاصاً.
وفي ما يتعلق بالفعاليات والطقوس في ليلة يلدا، هناك إلقاء أشعار ملحمية من كتاب "الشاهنامة" للشاعر الإيراني المعروف أبو القاسم الفردوسي، والتفاؤل بديوان أشعار الشاعر حافظ شيرازي، بالإضافة إلى سرد حكايات تاريخية يرويها كبار السن والأجداد. ويقوم بعض الشباب والشابات بعقد القران في يلدا أو الانتقال إلى بيت الزوجية فيها لبدء حياة مشتركة جديدة مع بزوغ ولادة الشمس وانتصار النور على الظلام، بحسب الأساطير الإيرانية القديمة.
وتتحدّث القصص التاريخية عن العفو عن السجناء في هذه الليلة. لذلك، من التقاليد أيضاً جمع التبرعات لتوفير "دية" عسى أن تخلص سجيناً من ظلام السجون، وتهدي الحياة مرة أخرى لمحكوم بالإعدام.
كما أن يلدا هي ليلة الوصال ولم الشمل في الثقافة الإيرانية، وغالباً ما يتوجه الإيرانيون إلى بيوت الأجداد والجدات أو كبار السن في الأسر للاحتفال بها وقضاء أطول ليالي السنة إلى جوارهم، تقديراً لمكانتهم في الحياة. لكن هذا العام، كورونا حرم الإيرانيين من الزيارات العائلية. وعليه، فإنّ يلدا هذا العام يتم إحياؤها من دون هذا التقليد الأساسي، عدا عن الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد هذه الأيام على خلفية العقوبات الأميركية وتداعيات تفشي كورونا. وفي النتيجة، حرم الكثير من الإيرانيين من التحضير على غرار السنوات الماضية للاحتفال بهذه المناسبة، وذلك لارتفاع الأسعار بشكل هائل، تحديداً أسعار المكسرات.
وترى اللجنة الوطنية لمكافحة كورونا أن الزيارات العائلية في الليالي تشكل 51 في المائة من أسباب تفشي كورونا في البلاد، وخصوصاً في موجته الثالثة. وعليه، اتخذت اللجنة منذ ثلاثة أسابيع جملة تدابير مشددة من بينها، حظر التنقل داخل المدن من الساعة التاسعة مساء وحتى الرابعة فجراً. رغم تراجع انتشار الفيروس نتيجة هذه الإجراءات، يبقى هذا الخطر قائماً، منعاً لاستئناف الزيارات العائلية الليلية، لا سيما في ليلة يلدا".
في السياق، حذر وزير الصحة الإيراني، سعيد نمكي، الأسر الإيرانية من الاجتماع في ليلة "يلدا"، مؤكداً أن "قلقنا حالياً منصب على التجمعات الأسرية في يلدا"، معتبراً أنها "خطرة". كما دعا نائب الوزير إيرج حريرجي الإيرانيين إلى تأجيل الاحتفال بيلدا إلى العام المقبل، فضلاً عن مطالبتهم بضرورة وضع الكمامات خلال الزيارات العائلية في هذه الليلة، إن قصدوا بيوت أقاربهم، إذ يتوجب على "المستضيف والضيف كلاهما وضع الكمامات".
كذلك، شددت وزارة الصحة الإيرانية من إجراءات الوقاية، من خلال اتخاذ تدابير جديدة قبل يومين من المناسبة، منها إغلاق المحال والأسواق اعتباراً من السادسة مساء، فضلاً عن تعديل موعد الحظر الليلي ليبدأ من الثامنة مساء، بعدما كان في التاسعة.
هذه الأجواء جعلت ليلة يلدا في إيران هذا العام مختلفة عن العصور الماضية، إذ لم تحرم الثلوج والبرد القاسي والأمطار الغزيرة الإيرانيين من الاحتفال بهذه المناسبة، إلا أن فيروساً غير مرئي نجح في ذلك. وعليه، تضطر كل أسرة إيرانية للاحتفال بالمناسبة وحدها في بيتها، وغالباً سيكون هناك من العائلات من يكسر الحظر ويتحمل الغرامة المالية للاحتفال بيلدا. تجدر الإشارة إلى أن التلفزيون الإيراني يحضّر منذ فترة أفلاماً وبرامج ترفيهية لبثها في هذه الليلة، تعويضاً عن الزيارات العائلية وبهدف تسجيل ليلة مميزة في أذهان الإيرانيين.