خلّف انهيار سدّي وادي مدينة درنة الليبية في 10 أيلول/ سبتمبر الماضي، بسبب الأمطار الغزيرة التي أحدثت فيضانات مدمرة، مخاوف كثيرة لدى الليبيين من احتمال تكرار الفاجعة.
وتحت ضغط تراكم كميات هائلة من المياه بسبب الأمطار التي رافقت العاصفة "دانيال"، والتي قدّرت بنحو 400 ملليليتر، انهار سد أبو منصور الذي يرتفع 75 متراً، ثم سد البلاد الذي يرتفع 45 متراً، وأطلقت محصلة المياه موجة ضخمة بارتفاع 30 متراً توجهت إلى وسط درنة، ومحت بلحظات ثلثها من الخريطة، بعدما اقتلعت عمارات من أساساتها، وجرفت السكان والسيارات وكل شيء نحو البحر، في فاجعة طبيعية غير مسبوقة في ليبيا تسببت في مقتل وفقدان الآلاف.
وما أغضب أهالي درنة وجعل الليبيين عموماً في حالة خوف وترقب هو فضيحة الفساد التي كُشفت بعد الفيضانات، بعدما تبين أن السلطات علمت بأن السدين احتاجا إلى صيانة عاجلة، وأنها تلقت تحذيرات من مخاطر التباطؤ في صيانتهما، في وقت لم تنفذ عقود أعمال كانت أبرمت سابقاً.
ودفعت هذه الفضيحة مكتب النيابة العامة إلى توقيف 16 مسؤولاً عن إدارة مرافق السدود في ليبيا، وتوجيه اتهامات جنائية في حقهم. وأوضح النائب العام الصديق الصور أن فاجعة درنة حتمت مراجعة كل عقود السدود في أنحاء البلاد، وأشار إلى أن اتخاذ تدابير في السنوات الماضية كان سيمنع حدوث كارثة درنة.
وبعيداً عن الدوائر القضائية، حركت المخاوف وتعليمات النائب العام أجهزة أخرى، بينها إدارة إنفاذ القانون، للتحقق من خلو مسارات الأودية الليبية من أية عراقيل ومخلفات أو حتى مبانٍ مخالفة، خصوصاً وادي المجينين ووادي الربيع ووادي السايح. يبرر الأكاديمي وأستاذ الهندسة المدنية عبد الحميد بن هندر، الذي يتعاون مع وزارة الموارد المائية في حكومة الوحدة الوطنية بطرابلس، التركيز على هذه الأودية بواقع مرور مساراتها في مناطق مكتظة بالسكان في العاصمة طرابلس.
ويقول لـ"العربي الجديد": "يعتبر وادي المجينين الأكبر حجماً وسعة، وينطلق من نواحي ترهونة وقصر بن غشير، ويمر بمناطق خلة الفرجان وصلاح الدين والهضبة، وصولاً إلى أبو سليم وغرغور وقرجي وحي الأندلس، قبل أن يصب في البحر".
وفيما يقدر بن هندر عدد السكان في مجرى وادي المجينين بنحو 700 ألف، أي 5 أضعاف سكان درنة، يحذر من أن أي تهاون في هذا السد قد يؤدي إلى كارثة أعظم بكثير مما حدث في درنة.
وكان وادي الربيع تحديداً تحوّل من منطقة زراعية إلى سكنية مكتظة بالمباني والناس في السنوات الأخيرة. ويوضح بن هندر أن "مجرى الوادي رُدم تماماً، وبات يتضمن مناطق عمرانية عشوائية وغير قانونية. وخلّف آخر فيضان شهده الوادي عام 2017 أضراراً مادية حتمت نزوح أهالٍ في شكل مؤقت".
وباستثناء النهر الصناعي الذي يغذي الشمال من مصادر مياه جوفية في الجنوب، لا تضم ليبيا أي أنهار، لذا تعد سدود الأودية التي تنتشر في غالبية مساحات ليبيا مهمة جداً لتخزين المياه تمهيداً لاستخدامها في الزراعة، كما تلعب هذه السدود دوراً مهماً في تغذية المياه الجوفية التي تناقصت في السنوات الأخيرة.
وكانت إدارة إنفاذ القانون بالإدارة العامة للعمليات الأمنية أعلنت انتهاء مهام حصر المباني والمنازل في كل مساحة وادي المجينين وصولاً إلى المصب، التي كلّفت بتنفيذها بقرار من مكتب النيابة العامة.
وكتبت الإدارة على صفحتها في "فيسبوك" أنها "نفذت المهام بالتعاون مع جهاز دعم الاستقرار والحرس البلدي ومسؤولي السدود"، وأوضحت أنها ستقدم تقارير بما أنجز من أعمال إلى مكتب النيابة العامة.
وحذرت الإدارة من رمي مخلفات في مجاري الأودية، مؤكدة أنها لن تتهاون مع المخالفين ومرتكبي هذه الأفعال لاحتواء الأضرار التي تلحق بالمصلحة العامة، وأنها ستتخذ كل الإجراءات القانونية في حقهم.
وتحدثت الإدارة عن العثور على مخلفات كثيرة مرمية في مسارات وادي السايح، جنوبي العاصمة طرابلس، وهو ما يحذر منه خبير التحاليل الطبية محمد الأسود الذي يقول لـ"العربي الجديد": "تحتوي المخلفات البشرية غالباً على مواد كيميائية تضر بالمياه الجوفية مثل مساحيق التجميل وصابون الغسيل والكلور، وأيضاً مخلفات طبية أكثر خطورة. وقد لوّثت هذه المواد مياه الآبار في مدينة درنة وجعلتها غير صالحة للاستهلاك البشري، علماً أن المخلفات العضوية مثل الحيوانات النافقة والقمامة تزيد نمو البكتيريا". ويشير إلى أن انتقال كل المخلفات مع الفيضانات من مجاري الأودية إلى البحر يزيد تلوّثه.
وتشهد مدن الشمال الشرقي سقوط أكبر كميات من الأمطار سنوياً في ليبيا، وأكثرها في الجبل الأخضر الذي كان محور حركة العاصفة "دانيال".
وتعتبر درنة مدينة نصف جبلية ونصف ساحلية تطل على البحر المتوسط وعلى ضفتي وادي درنة، حيث تتجمع المياه التي تنحدر من الجبل.
وأعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن الكارثة التي صاحبت العاصفة "دانيال" أثّرت على ربع مليون شخص، وخلقت تحديات إنسانية خطيرة مع انقطاع شبكات الطرق وارتفاع احتياجات المواطنين من مواد الإغاثة والموارد.