لبنان: طلاب التعليم الخاص ينسلخون عن مدارسهم بسبب الأقساط

27 سبتمبر 2023
يشهد لبنان تفلتاً في الأقساط المدرسية (حسين بيضون)
+ الخط -
تُواصل المدارس الخاصة في لبنان رفع أقساطها بزيادة وصلت إلى 400 في المائة مقارنة بالعام الماضي، مع فرض دولرة عشوائية خارجة عن الضوابط، في ظلّ هشاشة الأجهزة الرقابية، وغياب التدقيق الفعّال في الموازنات. ويشكو الأهالي من ارتفاع قياسي في الأقساط المدرسية لهذه السنة التي قُسِّمت إلى جزأين، الأوّل بالدولار الأميركي النقدي، والثاني بالليرة اللبنانية، مع إلغاء التدابير الاستثنائية التي اتخذت منذ بدء الأزمة الاقتصادية في البلاد أواخر عام 2019، على صعيد الزي المدرسي والمستلزمات الدراسية، التي عادت إلى طبيعتها الملزمة، ما يفاقم معاناة الأهالي الذين يواجهون صعوبات كبيرة في تأمين تغطية كلفة تعليم أولادهم.
وتقول رونا، وهي أم لطفلَيْن، لـ "العربي الجديد"، إنها "لم تحسم بعد قرارها بشأن المدرسة التي ستختارها لتسجيل ولَديْها فيها، على الرغم من أن العام الدراسي بدأ في عدد من المدارس الخاصة. وتشير إلى أن المدرسة التي ارتادها طفلاها العام الماضي رفعت أقساطها بحوالي أربعة أضعاف، مع فرض دفع جزءٍ منها بالدولار الأميركي النقدي، كما رفعت بدل النقل مع إلزامها بشراء الزي المدرسي وبعض المستلزمات المدرسية من الإدارة وبالدولار أو بالليرة اللبنانية، لكن بأرقام تفوق قدرتها المادية، علماً أن هذه الإلزامية جرى غضّ النظر عنها، وخصوصاً العام الماضي، إثر الأزمة الاقتصادية".
وتشير رونا إلى أنها تعاني كثيراً لإيجاد مدرسة مناسبة لطفلَيْها اللذين تأثرت حالتهما النفسية بسبب قرار تغيير المدرسة، والابتعاد عن زملاء الدراسة، مؤكدة أن الأقساط تفوق الخيال، ولا يستوعبها العقل والمنطق، وتتخطى راتب الأسرة مجتمعة، فهناك مدارس خاصة تراوحت أقساطها ما بين 700 و2000 دولار أميركي، بالإضافة إلى ما بين 10 و30 و60 مليون ليرة لبنانية (الدولار الواحد يساوي نحو 90 ألف ليرة)، ومستواها يعتبر متوسّطاً، في حين وصلت بعض الأقساط في مدارس أخرى إلى أكثر من 6 آلاف دولار من دون الجزء اللبناني الذي يتخطى الـ 80 و90 مليون ليرة، هذا من دون الحديث عن بدل النقل الذي يصل إلى 500 و700 دولار في السنة، والمستلزمات المدرسية، والكتب والدفاتر والقرطاسية التي بدورها تسجِّل أرقاماً مرتفعة جداً.
وتقول رونا إن غالبية المدارس لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية والمعيشية، ولا تتساهل مع الأهالي، من خلال السماح لهم بتقسيط الدفعات، حتى إنها تتخذ تدابير بحق الذين يتأخرون عن الدفع. وتشير إلى أنها ستواصل البحث عن مدرسة ملائمة تطرح أقساطاً معقولة يمكن تحمّل تكاليفها، لأنها لا تريد إرسال طفلَيها إلى مدرسة رسمية، في ظلّ تعثر التعليم الرسمي، ما يجعله بيئة غير مستقرة للأطفال بالنظر إلى الإضرابات التي دائماً ما يلجأ إليها الأساتذة، والإقفال المتكرّر الذي يُبقي العام الدراسي بمصيرٍ مجهولٍ.
من جهتها، تقول كارلا، وهي معلّمة في إحدى المدارس الخاصة، في قضاء المتن اللبناني (جبل لبنان)، لـ"العربي الجديد"، إن إدارات المدارس الخاصة تتذرّع برفع الأقساط، للحفاظ على جودة التعليم، وتأمين رواتب الأساتذة والمصارف التعليمية، بيد أن رواتب الأساتذة رغم الزيادة، لا تزال غير كافية، ولا تراعي الغلاء المعيشي، كما أنها تبقى خجولة جداً مقارنة مع حجم الأقساط التي ارتفعت أكثر من 4 أضعاف هذه السنة.
وتشير إلى أن رواتب الأساتذة تختلف طبعاً بين مدرسة وأخرى، فهناك تفاوت كبير أيضاً بالأقساط، فراتبها مثلاً لا يتخطى الـ 700 دولار، بينما قسط المدرسة حيث تدرّس، يتجاوز الألفي دولار، إضافة إلى 30 مليون ليرة في الجزء اللبناني، وهذا الراتب لا يكفي حتى نهاية الشهر، بالنظر إلى ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية، والمحروقات، وتعرفات الإنترنت، والكهرباء، والفواتير الصحية والاستشفائية والدوائية، وغيرها من المصاريف التي تتكبّدها في شتّى القطاعات، التي باتت بغالبيتها مدولرة.
في هذا الإطار، تقول رئيسة اتحاد لجان الأهل في المدارس الخاصة لمى الطويل، لـ "العربي الجديد"، إن الأقساط هذا العام جرى ضربها بـ 400 في المائة بالدولار وجزء لبناني، وهناك تفاوت كبير بين مدرسة وأخرى. فالمدارس المصنّفة تحت الوسط تصل أقساطها إلى 800 دولار، وقد وصل البعض الآخر إلى 3 و4 آلاف دولار، وهناك أقلية تتخطى أقساطها عتبة الـ 7 آلاف دولار، هذا من دون احتساب الجزء اللبناني الذي يتراوح ما بين 18 إلى 50 مليون ليرة وأكثر بحسب كل مدرسة.
وتلفت إلى أن التعليم في لبنان أصبح من المعجزات بالنسبة إلى الأهل، وبات واضحاً أن إدارات المدارس الخاصة عادت إلى السياسة المتبعة قبل الأزمة الاقتصادية، وسلخت نفسها عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي، مستغلة بهذه العشوائية غياب الضوابط والرقابة من الجهات المعنية، وتعثر المدارس الرسمية، وعدم قدرتها الاستيعابية، وكلّه بحجة الحفاظ على القطاع التربوي، علماً أن ذلك لا يحدث بسلك مسار الزيادة، بل بدراسة علمية للأقساط، والتدقيق وإجراء محاسبة مالية لموازنات المدارس الخاصة، الأمر الذي ترفضه إدارات المدارس. وتشدد على أنه من غير المسموح وغير القانوني فرض أقساط بالدولار الأميركي، لكن لا دولة تحاسب، وهناك غياب تام لوزارة التربية والتعليم العالي لأداء دورها في الرقابة والمحاسبة.
وتشير الطويل إلى أن نظام التقشف ألغي، وأصبح شراء الزي المدرسي من المدرسة ملزماً للأهالي، وهو مسعّر بالدولار، ويتراوح ما بين 150 دولاراً إلى 400 دولار.
كذلك، تلفت رئيسة اتحاد لجان الأهل في المدارس الخاصة إلى أنه "جرى رفع رواتب الأساتذة، لكن ليس بقدر قيمة الأقساط التي يجري تقاضيها، وهو ما شهدناه العام الماضي أيضاً، من هنا تأتي أهمية التدقيق المالي برواتب وجداول الأساتذة والمبالغ التي يجري تقاضيها من خارج الموازنة بالعملة الصعبة.
الصورة
الأقساط هذا العام جرى ضربها بـ 400 في المائة بالدولار وجزء لبناني (حسين بيضون)
الأقساط هذا العام جرى ضربها بـ 400 في المائة بالدولار وجزء لبناني (حسين بيضون)
وحول التسرّب المدرسي، تقول الطويل إنه لا يمكن معرفة ذلك قبل انتهاء مهل التسجيل. لكن بالمنطق، فإن أولاد موظفي القطاع العام يشكلون ما نسبته 30 إلى 40 في المائة من تلاميذ المدارس الخاصة، وإن كانوا يحصلون على منح تعليمية، لكنهم لا يتقاضون رواتبهم بالدولار الأميركي النقدي. وبالتالي، قد ينقلون أولادهم من مدرسة خاصة إلى أخرى أقلّ مستوى، أو يقرّرون نقلهم إلى مدرسة رسمية. وتضيف: "بحسب مركز الدراسات اللبنانية، تبين أن هناك تسرباً بنحو 41 في المائة لمن هم دون الـ 18 عاماً، وهؤلاء ممكن أن يكونوا قد أصبحوا خارج التعليم بشكل كلّي".
وتحذر الطويل من تداعيات رفع الأقساط في ظل الأزمة الاقتصادية الحادّة، وخصوصاً نفسية الأولاد الذين ينسلخون من قلب مدارسهم للذهاب باتجاه مدارس أخرى، عدا عن انخفاض المستوى التعليمي. وتقول إن هناك العديد من المدارس التي تخلّت عن أساتذتها المخضرمين، مشيرة إلى أننا "بصدد التحضير لأكثر من خطوة لمواجهة ما يحصل، وسنعلن عنها في وقتها، وخصوصاً وسط إهمال وزارة التربية والتعليم العالي حقوق الأهالي. وهذا بحدّ ذاته جريمة".

من جهته، يقول مقرّر لجنة التربية الوطنية والتعليم العالي النائب ادغار طرابلسي، لـ "العربي الجديد"، إنه "منذ 3 سنوات ونحن نشهد تفلتاً في الأقساط المدرسية. بعض المدارس اعتمدت زيادات منطقية ومعقولة وواقعية ومتواضعة، وأخرى عالية جداً، وتستهدف أصحاب المداخيل المرتفعة أو العاملين بالمؤسسات الدولية"، لافتاً إلى أن الأهالي فقدوا الثقة بالمدارس نتيجة الأقساط التي تُطلَب.
ويلفت إلى أن هناك غياباً لتطبيق القانون رقم 515، الذي ينظم الموازنة المدرسية، ويضع أصول تحديد الأقساط. كما أن هناك غياباً للشراكة بين الأهل والمدارس لوضع الموازنة والإشراف عليها، موضحاً أن هناك مدارس ترفض إعداد موازنات منطقية وواقعية، وتعترض على التدقيق في موازناتها، وهناك موازنات ورقية تُقدَّم لا تعكس الحقيقة، وأيضاً شيء من التضليل في الموازنات. إن صندوق المساعدة المستقل مثلاً بالدولار لا يزال خارج الموازنة بعكس اللبناني، وهذا أمرٌ غير مقبول، إذ إن وحدة الموازنة بالدولار واللبناني مطلوبة، على أن يكون هناك صندوقان، وليس صندوق واحد خاضع لرقابة الأهل، وكل ذلك يحصل وسط تقصير من قبل وزارة التربية والتعليم العالي.
الصورة
 غالبية المدارس لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية والمعيشية للناس (حسين بيضون)
غالبية المدارس لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية والمعيشية للناس (حسين بيضون)
بدوره، يقول الأمين العام للمدارس الكاثوليكية الأب يوسف نصر، لـ "العربي الجديد"، إن "هناك تنوعاً كبيراً بين ما هو مطلوبٌ بكل مؤسسة تربوية خاصة، إذ قد يصل إلى 10 آلاف دولار في بعض المدارس، أو إلى ما دون الـ 500 دولار في مدارس أخرى. وبالتالي، هناك فروقات شاسعة، ولا يمكن حصر ما هو مطلوب ببعض المؤسسات التربوية الخاصة العالية السقف، والمعروفة بالاسم في مجتمعنا اللبناني. ويمكن القول إن غالبية المؤسسات التربوية الخاصة ما هو مطلوب فيها يقلّ عن الألف دولار".
تبعاً لذلك، يشير الأب نصر إلى أنه "لا يجب تسليط الأضواء فقط على فئة معينة من المؤسسات التربوية، مع الإشارة إلى أن تلك الكاثوليكية بالتحديد لا تتخطى أقساطها إلا جزئياً عتبة الألفي دولار. أما غالبيتها فلا يتخطى الألف دولار، لا بل قسم كبير جداً يقلّ عن 500 دولار". ويرى أن الحديث بالأرقام العالية للأقساط وجعلها تشمل كل المدارس هو تضليل للرأي العام.
ويلفت إلى أن "صرخة الأهالي هي أكثر لدى المؤسسات الصغرى حيث البيئة الفقيرة والمتواضعة. وهنا ندعو المقتدرين والمغتربين والجهات المانحة والدول الصديقة إلى دعم هذه المؤسسات للاستمرار بالقيام برسالتها، وخصوصاً أنها تشكل الغالبية الساحقة التي تخدم شريحة المجتمع اللبناني المتواضع".
ويرى الأب نصر أنه "من المبكر الحديث عن التسرب المدرسي، إذ يجب الأخذ بعين الاعتبار عوامل عدة، أولها ما يتعلق بمصير المدرسة الرسمية. من هنا نشدد على أن تفتح أبوابها وتعمل بشكل طبيعي، لأن المدرسة الرسمية تستقطب فئة من المجتمع وهي منفتحة على الجميع من دون تمييز. من جهة أخرى، يجب انتظار وترقب كيف سيتعاطى الأهل مع الزيادات المطلوبة، ولو كان منها متواضعاً. وأعتقد أن الأجواء ستكون إيجابية ومتفهمة، على الرغم من الظروف الصعبة التي يمرّون بها". 
كذلك، يلفت إلى أن "ما اتخذ من إجراءات استثنائية في قلب الأزمة لا يصلح لسائر الأوقات، من هنا جرت إعادة النظر بها، حيث إن للتعليم وحاجات التربية أولوية، علماً أن الزي المدرسي يوفّر على الأهل ويوحّد الجميع، وهو يدفع مرة واحدة، ويلبس كل السنة، في حين أن الكتب المستهلكة قد لا تكون أحياناً لمصلحة التلميذ، فالاسترخاص ليس دائماً هو الحلّ الأفضل".
على صعيد آخر، يلفت الأب نصر إلى أنه لا يمكن للمدارس الخاصة إلا أن تتقدم بموازنتها إلى مصلحة التعليم الخاص في وزارة التربية والتعليم العالي وإلا وقعت تحت طائلة التغريم، وقد تصل الغرامة إلى 10 في المائة من قيمة مجموع أقساط المدرسة. وسبق أن اتُّخذت إجراءات بحق بعض المدارس، هذا الموضوع إلزامي، والترويج عنه يختلف عن الواقع.  

من جهته، يقول مصدرٌ في وزارة التربية والتعليم العالي، لـ"العربي الجديد"، إن "الوزارة لا تملك العدد الكافي للإشراف على الموازنات كلها، ولكنها تقوم بمجهود في هذا الإطار، ومصلحة التعليم الخاص تتولى متابعة تنفيذ التعاميم الصادرة عن الوزارة، وكل ما يتعلّق بالموازنات المدرسية، وتحديد قيمة الأقساط، على أن تتخذ إجراءات بحق المخالفين".
ويلفت المصدر إلى أن "هناك تعاميم أصدرتها الوزارة وستتشدّد بها، ولا سيما لناحية عدم اتخاذ المدارس أي أجراء بحق أي تلميذ، وخصوصاً إذا تأخر عن دفع القسط، بالإضافة إلى استيفاء القسط المدرسي على ثلاث دفعات على الأقل، على ألا يتجاوز القسط الأول ثلاثين في المائة من القسط السنوي للسنة الدراسية السابقة، ونأمل من المدارس الخاصة أن تراعي وضع الأهل والظروف الاقتصادية الصعبة".
المساهمون