التداعيات الاقتصادية الناتجة عن تفشي كورونا في فرنسا أثّرت على الكثير من الشباب، ما دفع جمعيات إلى المطالبة بتسهيل شروط الحصول على المساعدات
على الرغم من مضيّ ربع ساعة على مجيئه، ما زال نيكولا (20 عاماً) في منتصف طابور الانتظار أمام مطعم "غاليا" الجامعي في مدينة ستراسبورغ (شرق فرنسا). بطاقته الجامعية، التي يحملها في يده، تسمح له بالحصول على وجبة كاملة في مقابل يورو واحد فقط (1.19 دولار). منذ بداية سبتمبر/أيلول الماضي، تخصّص المطاعم الجامعية الفرنسية هذا المبلغ الرمزي للطلاب الأكثر معاناة نتيجة لتردي الأوضاع الاقتصادية، والحاصلين، مثل نيكولا، على منح دراسية حكومية. "ليس لديّ دروس اليوم، لكنّني جئت لتناول الغداء. منذ بدء العام الدراسي، وأنا آتي إلى هنا مرتين في اليوم (ظهراً ومساءً) لتناول الطعام".
لم يكن نيكولا مداوماً على المجيء يومياً إلى المطعم الجامعي قبل أزمة فيروس كورونا. "غالباً ما كنا نذهب، أصدقائي وأنا، لشراء شطائر أو غير ذلك في أماكن أخرى. أتحدث هنا عن العام الماضي. لكن هذا يكلفني اليوم جزءاً معتبراً من دخلي، الذي يقدر بنحو 550 يورو (نحو 652 دولاراً) شهرياً. كنت أعتمد لتغطية تكاليف معيشتي على عمل جزئي خلال أيام العطلة وبعض المساءات، كنادل في إحدى الحانات. لكن الحانة التي كنت أعمل فيها خفّضت عدد العاملين بحجة نقص الإيرادات نتيجة أزمة كورونا، وكنت أول الضحايا. لم أعثر على عمل بديل بعد".
على بعد أمتار من مطعم "غاليا"، توزّع "الجمعية الفدرالية العامة لطلاب ستراسبورغ" سلّات غذائية ومعدّات للوقاية من كورونا على الطلاب المحتاجين مجاناً. وعلى مقربة منها، تستقبل جمعية "ليتاج" الأشخاص المسجّلين على قائمة المستفيدين من وجبة الغداء، التي تقدمها إما مجاناً أو بسعر رمزي. وعلى الرغم من أن طوابير الانتظار تعدّ مشهداً مألوفاً في بلد بيروقراطي مثل فرنسا، إلا أنها لم تعد منذ أشهر، تقتصر على بعض الدوائر الحكومية أو المؤسسات التي تساعد مَن هم بلا مأوى. نتيجة للأزمة الاقتصادية الناتجة عن وباء كورونا، زادت الطوابير والواقفون فيها، وباتت المؤسسات والجمعيات تستقبل أشخاصاً لم يسبق أن رأتهم من قبل.
هذا، مثلاً، ما جاء به، قبل أيام، التقرير السنوي الخاص بجمعية "سوكور بوبولير". ويشير إلى أن الأخيرة استقبلت خلال شهري العزل الصحي الذي عرفته فرنسا للحد من انتشار الوباء (بين منتصف مارس/آذار ومنتصف مايو/أيار الماضيين)، نحو مليون و300 ألف شخص، أي ما يناهز نصف عدد الأشخاص الذين استقبلتهم طوال عام 2019. كما أن 45 في المائة من الذين حصلوا على المساعدة خلال هذين الشهرين هم أشخاص لم يسبق لهم أن تقدّموا بأي طلب سابق للجمعية ــ وهو ما تؤكده مختلف الجمعيات الاجتماعية الفرنسية، ما قد يدلّ على نشوء "فقراء جدد". وبحسب تقرير، فإن أكثر من مليون فرنسي باتوا اليوم تحت خط الفقر. في آخر أرقام "المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية"، وصل عدد الفقراء في البلاد، عام 2019، إلى 9 ملايين و300 ألف شخص، أي ما يعادل 14.7 في المائة من مجموع السكّان.
على الرغم من الحذر حيال هذه الأرقام في انتظار نشر الإحصائيات الرسمية حول الفقر، لا يختلف المتخصصون، الذين تحدثت إليهم "العربي الجديد"، في تحليلهم لتدهور الوضع الاجتماعي بسبب الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الأزمة الصحية. ويقول عالم الاجتماع نيكولا دوفو: "ثمة العديد من الإشارات المقلقة للغاية، والتي تدلّ على أننا إزاء أزمة كبيرة ذات أبعاد استثنائية: مثل الأرقام التي تعطيها الجمعيات والارتفاع الملحوظ في أعداد طالبي المساعدة الخاصة بالعاطلين من العمل".
من جهته، يقول مانويل دوميرغ، وهو مدير أبحاث في مؤسسة "أبّي بيار": "هناك تدهور واضح في وضع الشرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة. تدهور الوضع الاقتصادي أثّر على قطاعات كانت توظّف أشخاصاً ينتمون إلى هذه الشرائح، مثل قطاعي السياحة والمطاعم. يضاف إلى هؤلاء العمال والموظفون الذين لا يستفيدون من حماية اجتماعية كافية، مثل المتعاقدين والمياومين والأشخاص الذين يعملون من دون تصريح رسمي".
تُحسَب عتبة الفقر في فرنسا بدخل يوازي 60 في المائة من الدخل الشهري الوسطي للعاملين. في عام 2019، كانت هذه العتبة تزيد بقليل على 1000 يورو (1186 دولاراً) للشخص الواحد. مثل نيكولا، يظلّ مجمل ما تجنيه كلير، شهرياً، دون عتبة الفقر. تعمل الفتاة، التي تبلغ من العمر 24 عاماً، في جمعية باريسية لدعم الفنانين اللاجئين، كمتعاقدة ضمن برنامج خاص بالشباب يحمل اسم "الخدمة المدنية"، براتب لا يتجاوز 570 يورو (656 دولاراً) شهرياً. "بين بدل إيجار المنزل الذي يزيد بقليل على 400 يورو (474 دولارا)، وسعر بطاقتي الشهرية الخاصة بمترو الأنفاق (75 يورو - 88 دولارا) وبطاقة الحسم الخاصة بالقطارات (80 يورو - 94 دولارا) التي أستخدمها لأزور أهلي في جنوب فرنسا، لا يبقى شيء من هذا الراتب، ما يضطرني للعمل في الاعتناء بالأطفال مساءً".
لا تحصل كلير على أية مساعدة حكومية غير تلك الشهرية لدفع بدل الإيجار، حالها حال الكثير من الفرنسيين الذين لا تشملهم المساعدات بحسب الشروط المتعلقة بأوضاعهم وأعمارهم. هذا الفراغ في الدعم الحكومي يمثل أبرز النقاط التي تمركزت حولها مطالب الجمعيات الاجتماعية في لقاءاتها مع الحكومة مؤخراً، لبحث كيفية مواجهة الفقر والتهميش المتزايدين. وطالبت الجمعيات بتسهيل شروط الحصول على المساعدات وفتحها أمام الشباب الأصغر سناً، الذين يشكلون الشريحة الأكثر تأثراً بالأزمة الاقتصادية. لكن الحكومة تصر على مبدئها بتسهيل الحصول على عمل بدلاً من زيادة المساعدات، مكتفية بصرف دعم لمرة واحدة. وعلى أي حال، فإن هذا الفراغ في الحماية الاجتماعية لا يقتصر على الشباب فحسب، بل يشمل شرائح اجتماعية أخرى، لا سيما تلك الأكثر تهميشاً. أمر يبدو أشبه بمفارقة، في ظل الصيت الإيجابي الذي تتمتع بها فرنسا كواحدة من أكثر البلدان تطوراً على مستوى نظام الحماية الاجتماعية.
"يحمي نظام الحماية الاجتماعية الفرنسي الأشخاص المحميّين أساساً"، يعلّق دوميرغ. "فهو يدعم بشكل كبير موظفي القطاع العام والعاملين بحسب عقود. أما أولئك الذين يعانون بسبب تردّي أوضاعهم الاقتصادية، ويلامسون عتبة الفقر، فتزداد أوضاعهم سوءاً". يتفق دوفو مع دوميرغ في هذا الرأي، ويشير إلى أن استجابة الحكومة الفرنسية للأزمة الاجتماعية الحالية تزيد من هذه الازدواجية. على الرغم من ذلك، يذكّر دوفو بأن نظام الحماية هذا يساعد على الحد من التفاوت الاجتماعي والفقر بشكل ملحوظ. "إذا ما احتسبنا معدّل الفقر في فرنسا، قبل عملية إعادة توزيع الدخل، فإننا نحصل على نسبة تصل إلى 23 في المائة. تنخفض هذه النسبة إلى 14 أو15 في المائة بعد التوزيع، أي أن النظام الاجتماعي يخفّض الفقر بما نسبته 8 في المائة تقريباً، وهو ليس بالرقم القليل".