ما إن انتشر استعمال الأجهزة التقنية مثل الحاسوب اللوحي، بوسائطه المتعددة من صورة وصوت ورسوم وأشكال وجداول وغيرها عبر شبكة الإنترنت، حتى راجت مقولة في العديد من الأوساط التربوية والتعليمية، مفادها بأن عصر المدرسة والجامعة كمؤسسة لها نُظمها الإدارية وهيكليتها ومبانيها وأسوارها وسنواتها تبعاً للمراحل والمقررات، قد انتهى. ولم يعد من الضرورة بمكان الذهاب إلى هذه المؤسسات، إذ بات بإمكان التلميذ والطالب أن يبقى في بيته ويتواصل معها، ويحصل على المعارف المطلوبة. أكثر من ذلك، هناك من قال إنه لم يعد من لزوم للشهادات الرسمية والجامعية أصلاً. فقد بات باستطاعة أي راغب في المعرفة أن يدخل إلى الشبكة العنكبوتبة ويحصل على ما يشاء من علوم ومعارف تفيض عمّا تقدمه إلى طلابها أعرق الجامعات وأهمها مستويات في عالم المنافسة التعليمية - التعلمية، عدا البحث العلمي.
الجدل على هذا المستوى من طرح الأسئلة والتحديات لم تصل أصداؤه إلى بلادنا العربية، وظل بمثابة اجتهادات لأساتذة وباحثين وخبراء في العالم الأكثر تقدماً وحداثة. وبالطبع، طرح هؤلاء الكثير من المميزات التي يوفرها هذا النوع من التعليم، ومدى قدراته على ردم الهوّة الحضارية والثقافية وفتح الأبواب أمام الدول والشعوب الفقيرة للتخلص من الأكلاف العالية للتعليم. لكن وباء كورونا فرض على المنطقة التعامل بهذه القضية وذيوع مصطلحاتها بين التلامذة والطلاب والأهل والرأي العام. وهو تطور إيجابي على طريقة "رُب ضارة نافعة"، باعتبار أن تجاهل ما تموج به الأوساط الأكاديمية الغربية، لم يتجاوز اهتمامات الأساتذة الباحثين في العلوم التربوية ممن يتجمعون في كليات التربية. علماً أن مفاهيم الحداثة في التعليم ظلت على الأغلب حكراً على المؤسسات من فئة الخمسة نجوم، التي استحضرت الألواح الذكية ليشرح عليها أساتذتها دروسهم للطلاب، فضلاً عن الأساليب الصفية الناشطة، ولعله أحد أسرار تفوقها إلى جانب اللغات وبعض الاختصاصات النوعية.
العديد من الباحثين يعتبرون التعليم الإلكتروني أكثر مردوداً من التعليم الحضوري (التقليدي) لقدرته على تحسين أداء الطلاب وزيادة فاعليتهم في التعلم، ولأنه يعزز تعاملهم مع المضمار الرقمي التكنولوجي، ويربطهم على نحو تلقائي مع معارف العصر، وأدواته وطبيعة الأبحاث التي تعرض أمامهم على الشاشات. إلا أن هناك باحثين يناقضون الفكرة السابقة، ويؤكدون بناءً على دراساتهم وملاحظاتهم أن النتائج التي حصل عليها التلامذة والطلاب خلال عامَي التدريس عن بُعد كانت كارثية. فقد خسر هؤلاء ما سبق أن تعلموه في التدريس الحضوري المباشر.
إذاً، هنا يجب البحث عمّا له علاقة ببيئة التعليم الإلكتروني من خبرة غير مكتسبة لدى هؤلاء ولأساتذتهم ولذويهم على حد سواء. فضلاً عن غياب البنية التحتية الملائمة كالكهرباء والمنازل المريحة وموجات الواي فاي. هذا فضلاً عن أن البنية التي يحاولون من خلالها الحصول على هذا النوع من التعليم مصابة بأعطاب تتطلب معالجات جذرية غير متاحة. فالتعليم عن بُعد للدروس التعليمية المقررة عبر شبكة الإنترنت والذي يعرض للطلاب على شكل فيديو تعليمي وصور وملفات مطبوعة بالحاسوب وغيرها يتطلب بنية بشرية مدربة وخبيرة. وهذه جميعاً قد لا تكون متاحة للعموم وفي سائر الأنحاء التي يوجد فيها التلامذة والطلاب. إن إيصال المعلومات والدروس التعليمية إلكترونياً أو افتراضياً، يجب أن يكون في مناخات ملائمة وحديثة. إذ إن استخدام الوسائط الإلكترونية في الاتصال واستقبال البيانات واكتساب المهارات والتفاعل بين المعلم والمتعلم، وبين المتعلم والمدرسة، وقد يكون بين المعلم والمدرسة أيضاً، يتطلب مهارات تقنية تتجاوز قدرة النسبة الأكبر من الأساتذة والأهل والطلاب على التفاعل. وعليه، يصبح القول إن هذا النمط من التعلم لا يتطلب وجود صفوف دراسية ومبانٍ تعليمية ومدرسة أو جامعة، لأنه يتناقض مع هذه المكونات المادية للتعليم، لكنه في المقابل يتطلب عمليات تحضير أوسع مدى من مجرد هذه المباني. ولذلك يطلق عليه بأنه تعليم افتراضي، لكن نتائجه واقعية تماماً، والكثير من مقوماته البشرية والمادية واجبة الوجود.
(باحث وأكاديمي)