في ليالٍ باكية مليئة بالحزن تتجمع عائلات مصرية فقدت أبناءها في كارثة فيضانات مدينة درنة الليبية، ويشعر أفرادها بأن أشباح الحكايات البشعة للكارثة الإنسانية تطاردهم بعدما أنهت حياة أبنائهم، ومزقت المستقبل الواعد الذي حلموا به بعد عودتهم، والذي انتهى بكابوس لا يمكن الهروب منه.
تحوّلت منطقة العامرية غربي الإسكندرية (شمال) في الأيام الأخيرة إلى سرادق عزاء كبير للعائلات التي فقدت أبناءها في الكارثة، ومنها عائلة الشلوي التي أقامت عزاء لعدد من أبنائها في اليوم التالي للإعصار، ومثلها عائلات أخرى كلما علمت بوفاة شخص جديد من أبناء العائلة في درنة، والذين وصل عددهم إلى 13.
وينقل أهالي ضحايا ومفقودين، وكأنهم يحملون جبالاً ثقيلة، روايات وفرها شهود عايشوا وقائع العاصفة "دانيال"، ويتحدثون عن أن "رياح العاصفة عصفت بكل شيء في درنة، وتسببت في سقوط كميات هائلة من الأمطار الغزيرة التي لم يسبق لها مثيل في يوم كارثي مظلم من النهار إلى الليل، قبل أن تتهدم المنازل فوق رؤوس قاطنيها، ثم تحملها المياه الجارفة لتلقي بها بعيداً، في مشهد لا يضاهيه أي فيلم خيالي من انتاجات هوليوود".
يقول مصطفى عيسى، لـ"العربي الجديد": "قضى شقيق زوجتي وزوجته و11 من أبنائه وزوجاتهم وأحفاده الذين كانوا يسكنون جميعهم في منزل من 4 طوابق تهدم بالكامل بسبب العاصفة. عندما ضربت العاصفة ساحل ليبيا لم يقتصر تأثيرها المدمر على الشوارع والمباني وأرواح البشر، بل امتد إلى مستقبل عائلات مصرية، ومئات من أبنائها الذين تيتموا في وطنهم خلال انشغال آبائهم في جمع أموال في الغربة للإنفاق عليهم وتأمين مستقبلهم، فتحوّل الألم إلى جرح عميق لن يندمل".
ويقول الحاج سماحة أبو العلا، كبير عائلة أبو العلا في منطقة الناصرية التي توفي 6 من أفرادها في درنة، لـ"العربي الجديد": "حاولنا الاطمئنان على أبناء عائلتنا في بداية العاصفة، ثم انقطعت الاتصالات، فتابعنا عبر وسائل الإعلام التي عرضت صوراً مروعة للمنطقة التي يسكنها أبناؤنا وقد غمرتها المياه بالكامل، فتأكدنا أن لا أمل في عودتهم. كل منطقتنا في عزاء كبير، وتلاشت الابتسامة من وجوه المارة، وحلت ملامح البؤس والحزن بدلاً منها، في حين تحوّل نوم ذوي الضحايا ليلاً إلى أرق وكوابيس مفزعة بعدما فقدوا فلذات أكبادهم في مشاهد أشبه بيوم القيامة لا يمكن ان يتحملها البشر".
ويضيف: "لم نيأس، وتواصلنا مع أحياء فروا من جحيم العاصفة، لكنهم أخبرونا أنهم شاهدوا جثثاً كثيرة تطفو فوق سطح المياه، ومنها جثامين أبنائنا. توفي 6 من أفراد عائلتي، هم أسرتان، الأولى مؤلفة من أب وأم وطفلين توأم بعمر العامين، والثانية تضم أبا وابنه. وهؤلاء كانوا يحرصون على زيارة العائلة في مصر خلال الأعياد والمناسبات. ما نسمعه عن أهوال العاصفة يعمّق حزننا على فراق أحبتنا، ويزيد الآلام في قلوبنا، والتي تطاردنا وتحرمنا من السكينة".
بدورها، فقدت روحية عبد الإله اثنين من أشقائها في درنة، وعاد شقيقها الثالث محمود البالغ 17 سنة، في حالة جسدية ونفسية سيئة إلى منزل العائلة. تقول لـ"العربي الجديد": "روى لنا شقيقي الناجي أن الرياح كانت تعصف بكل شيء من حوله، وأنه شعر بقوتها الهائلة التي اقتلعت الأشجار، وشاهد كيف انقلب بيته رأساً على عقب، فالقوة المدمرة للإعصار كانت لا تصدق، وجاءت المياه على شكل جبال مرعبة اجتاحت كل شيء في طريقها، وجرفت كل شيء، الأثاث والأشجار والحيوانات. شاهد الدمار الرهيب يحدث أمام عينيه كأنه في كابوس، وأبلغني أن الأصوات كانت مرعبة، وصرخات الناس تمزق الهواء، ولا مكان للحصول على الأمان، فكل شيء كان يتحطم، وهو محاصر في عالم مرعب، يصرخ ويبكي لكن صوته يختفي في الضجيج، ولا يزال يحلم كل ليلة بتلك المشاهد المرعبة".
فقدت عائلة استشاري أمراض المخ والأعصاب، محمد عبد السلام، 6 من أبنائها في درنة، ويقول لـ"العربي الجديد": "هناك تقصير من وزارة الصحة في توجيه الدعم النفسي للعائلات التي فقدت أبنائها في الكارثة الإنسانية الكبيرة. تحتاج العائلات المصرية المكلومة إلى دعم نفسي يساعدها في التعامل مع الصدمة، وتوفير رعاية نفسية واجتماعية لأفرادها، وإرشادات تدعم شفاءهم وتعافيهم، ويجب أن يقف المجتمع إلى جانبهم، ويقدم لهم الدعم والتعاطف".
ويشدد عبد السلام على أهمية نشر الوعي حول التأثيرات النفسية للكوارث على الأفراد والعائلات، وتسليط وسائل الإعلام الضوء على قصص العائلات المتضررة، فالألم لا ينتهي بمجرد انتهاء الكارثة، بل تحتاج عائلات الضحايا إلى كثير من الجهد للشفاء من جروحهم العميقة".