من شمال لبنان، أبحر مواطنون بقوارب قاصدين أوروبا، لكنّ الهروب من البلد الغارق بالأزمات فشل، فمات عدد منهم وفُقد، واعتقل آخرون وأعيدوا إلى لبنان. يروي الحكاية لـ"العربي الجديد" شهود من بينهم
محمد سفيان محمد (21 عاماً)، شاب لبناني، حفرت الهموم آثارها في وجهه منذ الصغر، فهرم وهو في ربيع العمرِ. يتحدث، بعينين خاليتين من الأمل بغصة، عن طفله الذي توفي وهو يطلبُ منه قطرة ماء وعصيرا، خلال رحلة الهروب من لبنان عن طريق الهجرة السرية في قوارب صغيرة انطلقت من شمال البلاد. الطريق إلى منزلِ محمد، في منطقة القبة بمدينة طرابلس (شمال لبنان) تروي وحدها مشوار مأساته، فهناك أحياءٌ ضيقة غير نابضةٍ بالحياةِ، وأسواق صغيرة يقصدها متفرّجون يسرقون اللحظة ويغادرون، وباعة متجولون للقهوة، والكعك، والعصير، وحرفيون، وسائقو أجرة تتشح وجوههم بالبؤس والعناء، وعمال متجولون بعرباتٍ فارغة لشراء وجمع الخردوات والأثاث القديم، وحلّاقون تركوا أبوابهم مفتوحة لسلام المارين لا أكثر، وشبّانٌ يجلسون على الأرصفةِ يتباحثون في سُبلِ الرحيلِ والخروج من حلقةِ الحرمانِ المزمنِ. في تلك الأحياء مساكن شعبية ومنازل متآكلة لا تتوافر فيها أدنى مقوّمات العيش بظروفٍ مقبولة صحياً وإنسانياً، وأطفال يركضون في الشارع يوزّعون ابتساماتٍ على المارّة، في مشهدٍ قد يكون الوحيد الذي يُبقي الأمل موجوداً في منطقةٍ تُعرَف بـ"أمّ الفقير"، فشمال لبنان من أفقر المناطق في لبنان بالرغم من أنّه يضمّ في المقابل نسبة كبيرة من رجال الأعمال والسياسيين والزعماء الأكثر ثراء.
"كلّ حياتي مأساة بمأساة، كان الهروب بقارب الموتِ فسحة أمل بالنسبة إليّ، وإن كنت متيقناً من فرص النجاة الضئيلة، فأنا ميت وخاسر في كلّ الأحوال، وعاطل عن العمل، ووصلت إلى حدّ الكآبة. كان طفلي يطلب العصير والتشيبس (رقائق البطاطس) وأنا عاجزٌ عن تأمينها له، حتى أنّي كنت أتركه في المنزل تفادياً لأن يطلب مني شيئاً من السوق، وفي بعض الأحيان كنت أغمض عينيه عندما نصل إلى الدكان، حتى أنّني لا أملك ما أشتري به البونجوس (عصيرا معلبا) له" يقول محمد لـ"العربي الجديد"، بينما يجلس في الشارعِ مع شبّانٍ يتشاركون حلم الرحيل نفسه. باع أثاث منزله بخمسة ملايين ليرة (نحو 670 دولاراً أميركياً بسعر الصرف الفعلي في السوق السوداء) ورهن سواري ذهب تملكهما شقيقته، ليتحصل على ثمن تذكرة الهجرة السرية، تقاضاه منه شخص يدعى "ب. القطريب" وضع ثقته فيه كونه "ابن مدينتي" قبل أن يتبيّنَ لاحقاً أنّه مهرّب ضمن شبكةٍ كبيرة تجوب كلّ أحياء الشمال الفقيرة لاصطيادِ المحتاجين والبؤساء، على حدِّ قولِ محمد.
محمد الذي أطلق على طفلهِ اسم سفيان تخليداً لذكرى والده الذي حُرِمَ منه باكراً كما حرم الآن من طفله، وهو ينتظر الآن مولوداً جديداً. يقول إنّ المهرّب أقنع المهاجرين، بأنّ الذهاب إلى قبرص، سيكون سهلاً، والطعام مؤمّنٌ، ولن يحتاجوا شيئاً. لكنّ الخوف بدأ يعتريهم لحظة إدراكهم أنّهم يتوجهون جنوباً وليس باتجاه قبرص، وفي وسط البحر، من دون مواد غذائية، إذ أخذ المهرّبون كلّ ما معهم قبل انطلاقهم، وأخذوا سترات النجاة، كما نفد وقود القارب، وهكذا توفي ابنه البالغ من العمر سنتين ونصفاً، عطشاً، بعد يومين تقريباً، قبل أن يجدَ نفسه مرغماً على رميهِ في البحر، مع كلّ ما في هذا المشهد من قساوة تكاد تخنق محمد.
يغير الموضوع سريعاً عن ابنه ليتحدث عن الآخرين: "بعد انقطاع الأمل، وازدياد حالات الذعر والقلق، لركاب يتجاوز عددهم الثلاثين، من جنسياتٍ وأعمارٍ مختلفة يجمعهم الحرمان والفقر، قرّر عددٌ من الشبان القفز من القارب، وسبحوا بحثاً عن عناصر من خفر السواحل، أو أيّ قارب يمكن أن يطلبوا منه النجدة، لكنّهم ذهبوا من دون عودة وما زالوا مفقودين لا أثر لهم، باستثناء إبراهيم لاشين الذي تمكن من السباحة على مدى يومين وأكثر قبل أن يصادف سفينة اليونيفيل (قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان) التي عثرت على القارب وأنقذت من فيه. لكن، للأسف، فإنّ رحلة الهروب التي دامت ثمانية أيام تقريباً من دون أكل وماء، خلّفت قتلى ومفقودين بينهم جثة ابني وقريب لي. ومن عادَ زادت مأساته وخسائره بشرياً ومادياً، الأمر الذي يدفعني إلى إعادة التجربة مرّات عدّة بالرغم من المخاطر التي مررت بها، فالشعور بالعجز موت بطيء".
من جهته، يروي الناجي، إبراهيم لاشين لـ"العربي الجديد" رحلة اليومين ونصف اليوم في البحر، بحثاً عن خفر السواحل: "رميت بنفسي في المياه، من دون أن أفكّر سوى بالعائلات في القارب والأطفال والنساء وضرورة مساعدتهم، ولم أكترث للنتائج، فإما الموت أو العيش، ولا فرق بين الاحتمالين مقارنة بحياتنا في لبنان، التي هي أشبه بجثةٍ نابضةٍ في غرفة عناية فائقة". ويضيف: "ضللت طريق المركب، وعشت لحظات مجبولة بالخطورة والتصميم، فهناك في قارب الموت من ينتظرني، ولا نملك ترف الوقت، لم أقوَ على النوم أو أسمح لعينَي بأن تغمضا، فالغرق مصيري عندها. لا أعرف كيف جاءتني القوة هذه، وتابعت السباحة. أكل السمك يديّ وكتفي وقدميّ، وحتى وجهي، وبقيت علامات لدغاتٍ تظهر فوق جسمي كله، كما تكسرت أسناني من الملوحة، ودخلت بكتيريا إلى أمعائي. كنت في حالةٍ صعبة جداً إلى أن وجدت سفينة تابعة لقوة اليونيفيل البحرية وطلبت النجدة سريعاً، فحدّدت مكان القارب، وعاد 36 من الناجين إلى لبنان. ونُقلت إلى المستشفى من أجل تلقي العلاج".
يشير لاشين إلى أنّ الفقر والبطالة والحاجة إلى المال لدفع إيجار المنزل المتراكم طوال أعوام، وغيره من الديون، أسبابٌ دفعته للهجرة السرية، بحثاً عن وطنٍ يعيش فيه بكرامة ويؤمن له الحقوق التي حُرِمَ منها في بلده حيث "المحسوبيات" الطريق الوحيد لأيّ وظيفة عامة أو خاصة. يقول: "لدي أربع شقيقات، وأنا معيلهنّ الوحيد ومعيل والدتي، واتخذت قرار الرحيل بعدما رأيت شبّاناً سلكوا هذا المسار ووصلوا إلى ألمانيا، فأسسوا هناك عائلات، وتمكنوا من بناء مستقبل أفضل وأكثر أماناً. لكنّنا للأسف وقعنا في مصيدة المهربين - نحن الهاربين من شباك المسؤولين الفاسدين- فهم كانوا يخططون لنقلنا من شاطئ المنية شمالاً إلى جنوب لبنان حيث يلقي خفر السواحل القبض علينا". يتأسف لأنّه على الرغم من كلّ ما تعرض له مع الركاب، لم تسأل عنهم السلطات اللبنانية أو تقدّم لهم المساعدة، وقد اكتفت بالتحقيق معهم عبر أجهزتها الأمنية "مع العلم أنّها تتحمّل ما وصلنا إليه من شقاءٍ، وحرمان من حق التعليم والعيش بكرامة".
في المقابل، لم يقع سامي ياسين، في مصيدة المهرّبين، بل أوقفته سلطات قبرص بعد رحلة يومين تقريباً، نام خلالهما مع آخرين بالقارب، فأعيدوا إلى لبنان عبر عناصر من خفر السواحل القبرصي، بعد مشاورات مع السلطات اللبنانية، وذلك بموجب اتفاق لمنع المهاجرين من الوصول إلى الأراضي الأوروبية. يقول ياسين لـ"العربي الجديد": "عند وصولنا إلى قبرص اليونانية، وُضِعنا في الحجر لمدة يومين وخضعنا لفحص كورونا قبل المغادرة، وزودتنا السلطات القبرصية بالطعام والمياه، كما أبقت بعض العائلات هناك ولم ترجعها إلى لبنان". يشير إلى أنّ السبب الذي دفعه للمخاطرة في غمار البحر كان خسارة مطعمه الذي أنفق عليه مبلغ 100 ألف دولار في محلة أبو سمراء، طرابلس، نتيجة الأزمات المتراكمة في لبنان والتي فاقمها الوباء: "كذلك، رافقت نجلَي شقيقي في رحلتهما المأمولة التي لم تكتمل إلى اليونان". ويؤكد أنّه لن يبقى في لبنان، بعدما خسر كلّ شيء، وينوي السفر مجدداً إلى تركيا.
في القضية نفسها، يقول الشاب سامر عوض في اتصال مع "العربي الجديد" إنّه قطع الأمل من لبنان، ولجأ إلى الهرب بحراً من أجل البحث عن حياة فهو في عز شبابه ولا يريد أن يضيّع مزيداً من العمر خوفاً وقلقاً وفقراً. ويلفت إلى أنّه ما زال محتجزاً في قبرص اليونانية ولا يعرف مصيره. ويشير، إلى أنّه ونحو 56 شخصاً كانوا على متن القارب الذي عمدوا إلى شرائه بمبلغ ألفي دولار والهرب بواسطته إلى قبرص، وقد أعيد قسم منهم وما زال قسم آخر محتجزاً في قبرص.
في هذا الإطار، يستمرّ البحث عن المفقودين، علماً أن لا أرقام رسمية دقيقة عن أعداد المهاجرين. ويقول مسؤول في وحدة الإنقاذ البحري في الدفاع المدني اللبناني لـ"العربي الجديد" إنّه جرى انتشال أربع جثث حتى أمس الأول الإثنين، تعود لشخصين لبنانيين، أحدهما طفل، وشاب سوري وآخر هندي، وذلك في نقاط متفرقة من الشاطئ اللبناني. ويلفت إلى أنّ ثلاث جثث انتشلتها عناصر الدفاع المدني، في الذوق (شمالي بيروت) والجية (جنوبي بيروت) والبترون (شمال لبنان) فيما عثرت بحرية الجيش اللبناني على الجثة الرابعة في شاطئ الصرفند (جنوب لبنان) وهي التي تعود للشاب السوري. يتابع: "عثرنا على رسالة في ثياب الشاب الهندي كُتب فيها: نحن مقطوعون في شرق قبرص ولكم جزيل الشكر. على متن القارب 50 شخصاً. توفي طفلان حديثا الولادة بسبب النقص في الغذاء". يلفت إلى أنّ الرسالة كانت مربوطة بحزام ولاصق ومكتوبة بلغاتٍ عدّة.
في السياق، يؤكد مصدر عسكري، لـ"العربي الجديد"، أنّه تم توقيف أحد الوسطاء بين الركاب المهاجرين وصاحب القارب الذي خدع المهاجرين وحصل منهم على أكثر من عشرين مليون ليرة (نحو 2700 دولار بسعر السوق السوداء) ويجري البحث عن رأس الخلية وشركائه المنتشرين في المنية والقبة والتلّ (شمال لبنان) وغيرها، وجرى تشديد الإجراءات والدوريات البحرية للحؤول دون مغادرة أيّ قارب الشواطئ اللبنانية.
ويتابع أهالي المفقودين تحرّكاتهم في الشارع، واتصالاتهم مع الجهات المعنية بحثاً عن أولادهم، وقد اعتصموا الأسبوع الماضي، احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية، التي أوصلت مواطني لبنان إلى الهجرة السرية، ورمي أنفسهم في قوارب الموت، واعتراضاً على تراخي المسؤولين والأجهزة اللبنانية في قضيّة أولادهم وعدم القبض على الرؤوس الكبيرة التي تتاجر بأرواحهم.
من جهته، يقول الناطق الرسمي باسم "يونيفيل" أندريا تننتي، لـ"العربي الجديد" إنّ سفينة تابعة لهم عملت في 14 سبتمبر/ أيلول الجاري، على تحديد مكان قارب خارج المياه الإقليمية اللبنانية يحمل على متنه 37 شخصاً، توفي أحدهم، لافتاً، إلى أنّ "مهمة يونيفيل كانت تقتصر على إنقاذ الركاب وإعادتهم إلى لبنان سالمين عملاً بالقوانين الإنسانية، والمنظمات المعنية تتابع القضية مع السلطات اللبنانية، ويمكن أن نتحرّك لاحقاً بطلب من السلطات اللبنانية، مع الأمل بألا تتكرّر هذه الأحداث المأساوية".