شدّد خبراء البيئة في الأمم المتحدة على وجوب تخفيض انبعاثات غازات الدفيئة في مدّة تقلّ عن ثلاثة أعوام بهدف الحفاظ على عالم قابل للعيش، محذّرين من صعوبة حصر الاحترار بـ1.5 درجة مئوية في ظلّ التزامات الدول الحالية.
لا تبدو الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيّر المناخ التابعة للأمم المتحدة متفائلة في تقريرها الثالث الصادر في الرابع من إبريل/ نيسان الجاري، وتؤكد أنّ الأمور لا تسير وفقاً للمقرارات الصادرة عن مؤتمر باريس للمناخ (2015) أو "كوب 21". بالنسبة إليها، لم يتبقّ أمام الدول إلا ثلاثة أعوام حتى تتمكّن من كسر منحنى الانبعاثات المتسبّبة في الاحتباس الحراري، في حال أراد العالم بالفعل الالتزام باتفاق باريس للمناخ الذي يُعَدّ الأوّل من نوعه. بالنسبة إلى خبراء البيئة الأمميّين، فإنّه يتوجّب على العالم في الأعوام الثمانية المقبلة الحدّ من الانبعاثات بنسبة 43 في المائة للحفاظ على الهدف المنشود. لكنّ زيادة أخيرة في الانبعاثات سُجّلت بنسبة 12 في المائة، بحسب التقرير الأممي الذي يُعَدّ مجرّد جزء من تقرير أكثر شمولاً سوف يصدر في الخريف المقبل.
ويشير تحذير الخبراء إلى تبعات تُعَدّ غير سارة للبشرية، نتيجة الانعكاسات الخطرة على المجتمعات في حال لم تُخفَّض الانبعاثات ويُواجَه الاحتباس الحراري بجدية. ومنذ مؤتمر مدريد للمناخ (2019) أو "كوب 25"، يكرّر العلماء الدعوات لضرورة كسر منحنى الكربون المنبعث، في حال أرادت البشرية تجنّب كارثة ارتفاع درجات الحرارة بـ1.5 درجة مئوية، علماً أنّه كان من المفترض أن يحمل عام 2020 مؤشّرات لكسر المنحنى التصاعدي. وبخلاف طموحات قمم المناخ، من باريس إلى مدريد ثم غلاسكو في أواخر العام الماضي، تبدو السيناريوهات غير مبشّرة للحاق بتنفيذ الخطط في خلال ما تبقى من أجندات تقي المجتمعات نتائج الاحترار.
وهذا الإطار، كان عالم المناخ ومدير مركز بوتسدام الألماني لعلوم الأرض، يوهان روكستروم، قد حذّر من أنّ الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيّر المناخ لن تكون قادرة على تنفيذ خطة حصر ارتفاع الحرارة بـ1.5 درجة، في حال لم تبدأ ملاحظة تخفيض الانبعاثات مع عام 2020.
قلق مستمر
وعلى الرغم من أنّ العالم راح يواجه قضايا كبرى كثيرة في الأشهر الأولى من العام الجاري، فإنّ القلق من الاحتباس الحراري يبقى الشغل الشاغل للهيئة التي تؤكّد أنّ عام 2025 هو الحدّ الأقصى لكسر منحنى الانبعاثات وفق الخطط التي تبنّتها القمم المناخية حتى الآن. ويبدو أنّ الوقت القليل المتبقّي دون تحقيق الهدف المرجوّ، يدفع خبراء الأمم المتحدة إلى جانب نحو 600 عالم شاركوا في التقرير الأخير إلى قرع جرس الإنذار مجدداً، لا سيّما أنّ متوسّط الانبعاثات زاد بنسبة 12 في المائة حتى عام 2019 بدلاً من الانخفاض.
ويعيد هؤلاء الخبراء زيادة الانبعاثات المتسبّبة في الاحتباس الحراري، مع كلّ ما ينجم عنها من تصحّر ونقص في المياه وتراجع الأمن الغذائي إلى جانب الأزمات العالمية الأخرى المتعلقة بارتفاع في أسعار أسواق الغذاء العالمي (خصوصاً في دول الجنوب الأقلّ ثراءً من دول الشمال)، إلى مواصلة بعض الدول استخدام الوقود الأحفوري على نطاق واسع، وذلك بخلاف أهداف التحوّل إلى الأخضر من خلال الطاقة المتجدّدة واستبدال السيارات المشغَّلة بالوقود بتلك الكهربائية وإنجاز عمليات تشجير واسعة. لكنّه يبدو أنّ ثمّة دولاً تناست الأهداف الجماعية، وسط أزمات كورونا والطاقة والإمدادات اللوجستية وبطء الدول في تخفيض اعتمادها على الوقود الأحفوري، لا سيّما الاستهلاك الكبير للفحم في الصين وغيرها، وكذلك مساعي اللحاق بالخسائر الاقتصادية.
وتزامناً مع صدور التقرير الجديد للهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيّر المناخ، وجّه مشاركون فيه انتقادات حادة للدول الأكثر تلويثاً والتي تُعَدّ المسؤولة الكبرى عن الانبعاثات. وذكر أحد مسؤولي مجموعة العمل الثالثة في اللجنة، جيم سكيا، أنّه "من دون إجراء تخفيضات فورية وعميقة في كلّ القطاعات سوف يكون من المستحيل الحفاظ على حدّ أقصى لارتفاع درجات الحرارة تحت سقف 1.5 درجة مئوية". ورأى كذلك أنّه حتى لو تمكّنت البشرية من كسر المنحنى (الخاص بالانبعاثات الضارة) بحلول عام 2025 وخفّضتها بنسبة 30 في المائة بحلول عام 2030، فإنّه "من الحتميّ تجاوز حدّ درجات الحرارة المتّفق عليها، وذلك لفترة ما على أقلّ تقدير، بسبب عدم الالتزام السابق، قبل أن نصير قادرين على تحقيق الانخفاض إلى ما دون 1.5 درجة بحلول نهاية القرن الحالي".
يُذكر أنّ خبراء الهيئة يشيرون إلى احتمال وصول الاحترار إلى درجتَين مئويّتَين في حال لم تُتَّخذ أيّ إجراءات مناسبة للحدّ من انبعاثات غازات الدفيئة. والأمر بالنسبة إلى هؤلاء الخبراء لا يُعَدّ ترفاً بل يتعلّق بشكل عميق بمستقبل حياة المجتمعات وبقائها. وهذا ما لفت إليه كذلك رئيس الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيّر المناخ هوسونغ لي الذي شدّد على أنّ "القرارات التي نتّخذها اليوم قد تضمن مستقبلاً قابلاً للعيش... فنحن نقف عند منعطف".
احتجاز الكربون
ويرسم التقرير الأممي صورة متشائمة لمستقبل الأرض، مشدداً على ضرورة الاستخدام الواسع لتقنية إزالة الكربون للحدّ من الاحترار الخطر. بالنسبة إلى معدّي التقرير، فإنّه من دون احتجاز الكربون (وهي تقنية غير ناضجة)، لا بدّ من التخلص من استخدام الفحم تماماً وتقليل استخدام النفط والغاز بنسبة 60 في المائة و70 في المائة توالياً بحلول عام 2050 مقارنة بمستويات عام 2019، بالإضافة إلى وجوب إنتاج الكهرباء في أنحاء العالم من مصادر منخفضة أو منعدمة الكربون. تجدر الإشارة إلى أنّ اللجوء إلى أساليب احتجاز الكربون وتخزينه أمر "حيوي" لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050 وحصر الاحترار بـ1.5 درجة مئوية.
وفي ما يتعلّق بوقف الأنشطة المؤدية إلى انبعاث ثاني أكسيد الكربون، يوضح التقرير أنّه لا بدّ من أن يكون الأوّل من يناير/ كانون الثاني من عام 2030 موعداً نهائياً لوقف سير كلّ مركبة تعمل بالوقود الأحفوري، ولوقف إنتاج الكهرباء عبر محطات الطاقة الأحفورية. ويشير التقرير في هذا المجال إلى زيادة شراء الفحم والنفط، متّخذاً الولايات المتحدة الأميركية مثالاً على ذلك، إذ طالب الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن شركات النفط بزيادة إنتاجها، الأمر الذي عدّته الشركات التي كانت على وشك الإفلاس فرصة لتحقيق أرباح قياسية بزيادة إنتاجها. إلى جانب ذلك، يأتي تشجيع فنزويلا على زيادة الإنتاج، علماً أنّ هذا البلد يعاني أصلاً من تلوّث وضرر بيئيَّين كبيرَين.
تجدر الإشارة إلى أنّه منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، لوحظت عودة نحو إنتاج مزيد من الوقود الأحفوري حتى في دول الشمال الأوروبي التي كانت أكثر ميلاً نحو التحوّل الأخضر، كما هي الحال في النرويج والدنمارك، وحتى في بريطانيا. كذلك دفعت الحرب الصين إلى تكثيف إنتاجها للفحم الحجري بدلاً من تخفيفه.
وينصح معدّو التقرير الحكومات حول العالم بالتدخّل الفوري لتطبيق مقرّرات مؤتمر باريس للمناخ، وذلك من خلال البدء الفوري باستبدال محطات الطاقة الأحفورية وتغيير النظام الغذائي العالمي بتخفيض الاعتماد على المنتجات الحيوانية، والمباشرة الجادة في إنشاء بنية تحتية حضرية موفّرة للطاقة ومتحوّلة نحو الأخضر، البديلة والمستدامة. وبالنسبة إلى هؤلاء الخبراء، يتطلب ذلك من المجتمعات تغيير أسلوب حياتها وسلوكياتها في حال أرادت بالفعل النجاة من الآثار المدمّرة للاحتباس الحراري وارتفاع درجات الحرارة. ومثالاً على ذلك، يطرح الخبراء ضرورة أن يختار الناس منتجات ذات عمر تشغيلي طويل والتي يمكن إصلاحها.
تقريع أممي
من جهة أخرى، يُسجّل في التقرير ما يشبه التقريع لمجتمعات تُعَدّ المسؤولة الكبرى عن الانبعاثات. ويتحمّل مواطنو دول صناعية، بما فيها الصين، الذين يشكّلون فقط عُشر سكان العالم، مسؤولية تتراوح ما بين 34 و45 في المائة من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمي، في حين أنّ نصف سكان الأرض الآخرين مسؤولون فقط عن 13 إلى 15 في المائة من تلك الانبعاثات. ويجد الخبراء علاقة ما بين النموّ الاقتصادي، على مثال نموّ المداخيل الفردية، وبين الزيادة في نسبة الانبعاثات، ويرون أنّ "القيمة النقدية الخالصة لنموّ الدخل لم تعد كافية لقياس الرفاهية الوطنية ورفاهية الأفراد". وفي ذلك إشارة إلى أنّ نوعية الحياة البعيدة عن الأضرار المناخية والبيئية تؤدّي دوراً كبيراً في قياس مستوى الرفاهية في المجتمعات، أكثر من المال.
ويبقى أنّ التقرير الأممي يحكي عن صورة قاتمة في حال لم يستطع العالم في خلال السنوات المتبقية حتى عام 2025 الانتصار في معركة التغيّر المناخي، الأمر الذي يولّد برأي معدّيه أزمات جديدة سوف تضرب مجتمعات عديدة، خصوصاً في الدول الأقلّ نموّاً وثراءً، مع اتّساع فجوة الفقر وغياب الأمن الغذائي نتيجة ما يولّده ارتفاع حرارة الأرض على خلفية الانبعاثات الضارة، إلى جانب الأضرار الأخرى التي تلحق صحياً بأكثر المجتمعات تلوثاً.