قصة نازح... بداية تشرّد فرضتها اشتباكات السودان

27 ابريل 2023
كثيرون أرغموا على الفرار (فرانس برس)
+ الخط -

قبل اندلاع المعارك بين قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، والجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، كان عباس عزت (65 عاماً)، وهو صحافي ومصوّر، يتحدث مع زوجته (50 عاماً) عن التجهيزات لاستقبال عيد الفطر في 21 إبريل/نيسان الجاري.  
لكن في تمام التاسعة صباحاً من يوم السبت الموافق 15 إبريل، اشتعلت الحرب. لم يتوقع عباس وزوجته أن الحرب التي انطلقت شرارتها الأولى في كل من معسكر الدعم السريع بالقرب من المدينة الرياضية جنوب الخرطوم، وقاعدة مروي الجوية في الولاية الشمالية، قد تدفعهما للنزوح إلى مدينة القضارف (شرق السودان). الرحلة كانت شاقة، وقد اضطرا وطفلهما (6 سنوات) إلى السير ساعات طويلة على أقدامهم، ونفد المبلغ المالي الذي كان في حوزتهما.
يقول عباس لـ "العربي الجديد": "استيقظنا صباح السبت على أصوات المدافع والرشاشات، وتحليق الطائرات الحربية، وظنّنا في بادئ الأمر أن ما يجري تصرّف فردي من قيادات عسكرية أدنى، وأن الأمور ستعود إلى طبيعتها بمجرد تدخّل قيادة الجيش والدعم السريع. لكن للأسف، بدأت الأمور تسير نحو حرب عقب البيانات التي صدرت من قيادتي القوات العسكرية المتقاتلة". يضيف: "وقتها، أيقنّا أنها الحرب التي لم نتوقع حدوثها في الخرطوم مطلقاً".  
بقليل من المواد الغذائية وفي ظل انقطاع التيار الكهربائي، لزم عباس وأسرته شقتهم في الطابق الثالث في مبنى مكون من ثلاثة طوابق بالجريف شرق محطة 7 في الخرطوم. وزاد وجودهم في الطابق الثالث من خوفهم كونهم أكثر عرضة للقصف بالأسلحة الثقيلة.
بعد عشرة أيام، نفد منهم الطعام والشراب. لكن لم يكن هذا هو السبب الرئيسي الذي دفع عباس إلى اتخاذ قرار إخلاء شقته. يقول: "علمنا أن تعزيزات عسكرية وصلت إلى الطرفين المتمركزين على مقربة من موقع سكننا، فخشينا أن نموت تحت الأنقاض".
في ذلك اليوم، وصلت قوة من الجيش قادمة من الحدود الإثيوبية، حيث كانت تطارد عصابة الشفتة الإثيوبية، التي تنشط على الحدود بين البلدين وتسرق وتقتل المزارعين والرعاة السودانيين، من أجل طرد قوات الدعم السريع المتمركزة على مشارف كبري المنشية (الخرطوم) الذي يطل مباشرة على مكان سكن عباس وزوجته. وقتها تأكد أن ساعة الرحيل قد حانت، ولو تأخر قليلاً لأصبح في مرمى نيران أسلحة القوتين.

يستعدون لمغادرة الخرطوم (عمر إيرديم/ الأناضول)
يستعدون لمغادرة الخرطوم (عمر إيرديم/ الأناضول)

قرّرا الذهاب إلى منزل شقيقة زوجته بالمايقوما (مربع 9) لبعض الوقت. حملا طفلهما الصغير والقليل من الأمتعة، وأحكما إغلاق الشقة. يقول عباس: "حين نزلنا إلى الطريق العام وجدنا كل سكان الحي يفرّون، إذ علموا بوصول التعزيزات العسكرية". يضيف: "لم نتوقع أننا قد ننزح من الخرطوم ونحن على هذه الحال".
المسافة بين الجريف والمايقوما هي حوالي سبعة كيلومترات، قطعها عباس وزوجته وطفلهما سيراً على الأقدام. تعرّضوا لتفتيش دقيق ومذل من قوات عسكرية أنشأت حواجز مؤقتة على الطريق، وكانت القذائف تسقط على مقربة منهم، وبدت آثار القصف واضحة على جدران المنازل.  
وصلوا إلى منزل شقيقة زوجته بعد جهد كبير، لكنهم وجدوا أن المنطقة تعرضت للقصف بالطائرات العسكرية، الأمر الذي أدى إلى بتر يد ابنة خالة صاحبة المنزل الذي كانوا يعتزمون الإقامة فيه لبعض الوقت، ريثما تنسحب الآليات العسكرية من محيط سكنهما في الجريف. تملّك الرعب زوجة عباس وطفله. يقول: "شعرت أن حياة أسرتي المستقرة لن تعود كما كانت. بدأنا نسير في طريق المجهول". وحين رأى الدمار الذي أصاب الحي الذي أراد اللجوء إليه، قرر عباس المغادرة إلى القضارف (410 كيلومترات من الخرطوم). يضيف: "عدنا أدراجنا سيراً على الأقدام نحو محطة الحافلات العامة الواقعة في سوق حلة كوكو (تبعد حوالي 3 كيلومترات)".

قطعنا نصف المساحة قبل أن تقلّنا سيارة إلى محطة الحافلات. يقول عباس: "زاد أصحاب الحافلات سعر التذاكر خمسة أضعاف. ومن يتمتع بالحظ فقط، يجد تذكرة لأنها تنفد بسرعة رغم ارتفاع سعرها". عثر على تذكرتين في حافلة متجهة إلى منطقة ود مدني (وسط السودان). جلسا على مقعدين متجاورين ووضعا ابنهما بينهما. لم يكن الركاب يحملون أية أمتعة لأنهم تركوا منازلهم على عجل". يقول عباس: "تجنب السائق السير على الطريق الرئيسي خوفاً من المعارك الدائرة على جانبي الطريق. واختار الطرقات الداخلية في منطقة الحاج يوسف شرق الخرطوم. ولأن تلك الطُرقات صارت ملاذاً لنيقرز (عصابات محلية تنشط أيام الاضطرابات وتروع المواطنين مستخدمة الأسلحة البيضاء)، نبهنا السائق بإخفاء الهواتف النقالة أو المال تحت المقاعد".   

يتابع عباس: "كانت المشاهد داخل الأحياء وعلى الطريق الرئيسي مروعة. الجثث ملقاة على الأرض، بعضها محترق ومتفحم تماماً، والبعض الآخر ربما كان لديه فرصة للنجاة لو أن أحدهم تمكن من نقلهم إلى المستشفيات. وعلى مقربة من الجثث، كان هناك أحياء يعجزون عن الحراك من جراء الإصابات".

قلّة فقط في الحافلة كانوا يعرفون وجهتهم. البعض تمنّى لو كان في إمكانه البقاء في الحافلة إلى أن تتوقف الحرب، فيعودوا إلى منازلهم. وكان عباس أحد هؤلاء. لكن قاطع ابنه حلمه ليسأله عن وجهتهم. يقول عباس: "خلال 10 أيام، استطعت إبعاد الخوف عن طفلي، ولم أجعله يشعر بأن ما يدور حولنا يشكل خطراً على حياتنا. لكن في ذلك اليوم، وبسبب مشهد الجثث وآثار الحرب العنيفة، لم أجد جواباً أرد به عليه".
أراد عباس التوجه إلى القضارف. نزل من الحافلة ليبدأ رحلة أخرى من المعاناة، انتهت أمس الأربعاء 26 إبريل. يقول: "غادرنا شقتنا ونحن لا نملك سوى القليل من المال يكفي لتذكرة الرحلة الأولى. وحين وصلنا إلى مدينة ود مدني، كنا قد خسرنا المال".

السودان (فرانس برس)
ارتفعت أسعار تذاكر الحافلات (فرانس برس)

قضى عباس وزوجته وطفلهما ساعات طويلة إلى جوار الطريق يلوّحون بأيديهم لأصحاب المركبات الخاصة الذين كانوا هاربين أيضاً من جحيم الحرب. يقول عباس: "بعد ساعات طويلة من الانتظار، توقفت سيارة تحمل ثلاثة أشخاص هم رجل وزوجته ووالدته". وكان هناك مقعد واحد فارغ، فدفع عباس زوجته نحو باب العربة، قائلاً: "اصعدي وسأجد حلاً". افترقا على أمل أن يلتقيا في القضارف، المدينة التي وُلد فيها، ولم يفكر أنه قد يعود إليها هارباً من جحيم الحرب.

لم يحالف الحظ عباس عقب مغادرة زوجته وطفله في العثور على وسيلة نقل ليلحق بهما. قضى يومه على الرصيف. وعند المغيب، ذهب يبحث عن مأوى يقضى فيه ليلته ليعاود التلويح على الطريق العام في اليوم التالي.
يحكي عباس عن تفاصيل مؤلمة تعرّض لها الهاربون من نيران الحرب. يقول: "غادر مئات المواطنين منازلهم من دون مال ولا أمتعة. بعضهم مشى على أقدامه حتى تقرّحت على أمل إيجاد مكان آمن بعيداً عن الحرب". يضيف: "أكثر الذين شاهدتهم يهيمون على وجوههم في الطريق وفي مدينة ود مدني هم من النساء والأطفال". يتابع: "تفاجأ سكان المدينة التي هرب المواطنون إليها من الخرطوم بالأعداد الكثيرة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع بدلات إيجار المنازل. كما امتلأت الفنادق والنزل وتضاعفت قيمة تذاكر وسائل النقل الداخلية لعدم وجود رقابة عليها". يتابع: "انفجرت الأسعار وأصبحت تفوق القدرة المالية للنازحين".

وسط هذه الفوضى التي لم تشهدها ود مدني من قبل، لا يزال عباس يبحث عن وسيلة تنقله إلى مدينة القضارف التي تقع على بعد 225 كيلومترا جنوب شرق ود مدني. يقول: "ربما أجد من يساعدني على الوصول إلى القضارف. لكن كيف أحصل على المال لأعيل أسرتي وأنا غريب في المدينة؟". 
ودخلت الحرب بين الجيش و"الدعم السريع"، اليوم الخميس، يومها الثالث عشر، بعد خلافات حادة بينهما حول تفاصيل دمج "الدعم السريع" في الجيش، الوارد في اتفاق إطاري "مبدئي" وقّعه الطرفان مع قوى سياسية في 5 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وفشلت وساطات دولية وإقليمية ومحلية في إقناع الطرفين بتجاوز الخلافات، خصوصاً تلك المتعلقة بقيادة القوات بعد بدء الدمج.

المساهمون