تشكو حادقات الأطفال من أوضاع الصغار الذين لم يبذل ذووهم حداً أدنى من نقل المعارف إليهم على صعد اللغة والأشكال والألوان وغيرها، ويشكو معلمو/ات المراحل الابتدائية من أوضاع تلامذتهم، ويستغرب معلمو/ات المراحل الأساسية كيف وصل هؤلاء التلامذة إلى صفوفهم وهم لا يجيدون بعد "فك الحرف"، أو قراءة أو نسخ جملة واحدة.
وهكذا أساتذة المراحل الثانوية، الذين يلحظون ضعف أداء من في صفوفهم من طلاب. وفي الجامعة بما فيها الكليات التي تُجري امتحانات لتحديد عدد المقبولين لديها، يفاجأ الأساتذة بطلاب يوشكون على الدخول في المرحلة الجامعية بمستوى متدنٍ من المعارف، بما فيه كتابة جملة عربية أو أجنبية مفيدة. علماً أن المناهج التعليمية تسير وفق أنماط متدرجة تصاعدياً يفترض واضعوها أن كل مرحلة تفتح على مرحلة أعلى بعدها.
هذا الانطباع كان لدى المعلمين والأساتذة قبل تفشي وباء كورونا وتفاقم بعده. وهو أمر يعبر عن مأزق عام في المناهج نفسها، وطرائق التدريس، ومؤهلات الهيئات التعليمية، ونظم الامتحانات التي ما زالت تعتمد على "ملكة" الحفظ التي يعقبها النسيان، وكأن شيئاً لم يكن قبلها.
وهكذا يجد كل معلم وأستاذ نفسه أمام مشكلة تتطلب منه تخصيص ساعات طويلة لتذكير تلامذته و طلابه بما سبق ودرسوه قبلاً كي يتابع نحو مستويات أعلى. هذا الضعف يكشف عن مخرجات ضعيفة في عموم المراحل. مع وجود استثناءات محدودة في داخل كل صف، وتباين في المؤسسات.
وهكذا يتبين للأساتذة الذين يناقشون رسائل الدبلوم والدكتوراه أن هؤلاء الذين يوشكون على نيل أرفع الشهادات يعانون ضعفاً شديداً في منهجيات البحث والمناقشة والمدافعة عما جمعوه وعالجوه من معطيات. أكثر من ذلك يتبين أن مستوى الإلمام باللغة والمصطلحات العلمية للمادة بالغ التدني لدى معظم الطلاب.
مع ذلك يحصل هؤلاء على أعلى الدرجات بالنظر إلى سيادة الطابع الشخصي – الزبائني في علاقة الأستاذ بزملائه في هيئة التحكيم من جهة، وبالطالب من جهة ثانية. لذا لم يكن أمراً خارج المألوف أن تعمد العديد من الجامعات إلى تعليق منح درجة الدكتوراه لطلابها، بانتظار تحسن وانضباط وصرامة الأساتذة، وتطور أبحاث وأداء طالب هذه الشهادة.
ومن دون تحميل الطلاب والأساتذة وزر هذا الوضع الكارثي، يمكن القول إن هناك عوامل أعمق مما يبدو على السطح، وتتعلق أصلاً وبالأساس بفلسفة النظام التربوي المعتمدة على التلقين والحشو، أكثر من الإبداع والابتكار، ودفع التلميذ والطالب ومنذ سنوات الدراسة الأولى المبكرة إلى التفكر بحل المشكلات وعلاجها، بدلاً من "بصم" المواد، ثم وضعها على الورق، مجرد جلوسه وراء طاولة الامتحان النهائي أو المدرسي حتى.
يربط العديد من خبراء التربية بين "فلسفة" التلقين هذه وبين البنية الفكرية للإنسان العربي، الذي ترسخ في ذهنه بوعي أو من دونه، أنه قاصر عن مجاراة عالم اليوم لجهة الاختراع والابتكار للأفكار والعناصر التي تساهم في ترقية وضع المجتمعات التي يعيش ضمنها. لكن باحثين آخرين يعطفون مثل هذا الوضع على غياب الديمقراطية والبنية الأبوية للسلطات التي تتحدد مسؤولياتها بتدبير الأمور دون مشاركة المجتمع في التوصل إلى حلول للمعضلات المتراكمة. وهكذا تتعود شعوبنا على انتظار مجيء "القائد الملهم" الذي يضرب البحر بسيفه فيشقه، ويذلل الصعاب وينجح في إخراج شعوبنا من التخلف الذي نعانيه.
(باحث وأكاديمي)