يؤكد الطبيب الفلسطيني ــ البريطاني غسان أبو ستة (54 سنة)، أن العدوان على قطاع غزة ليس مجرد انتقام من شعب غزة رداً على عملية "طوفان الأقصى"، وإنما جزء من سياسة ممنهجة يتعمد فيها الاحتلال الإسرائيلي محاولة تنفيذ تطهير ديموغرافي، وأن تلك المحاولة إذا نجحت، فإنها ستتمدد إلى الضفة الغربية والمثلث، وصولاً إلى إنهاء القضية الفلسطينية.
ويقول في مقابلة مع "العربي الجديد"، إن "ما يتم حالياً هو ترك أكثر من 40 ألف جريح ومريض للموت في ظل عدم توفر أي سبل لدى الكوادر الطبية لعلاجهم بعد الدمار الذي طاول القطاع الطبي. هناك الكثير من الجهود التي يفترض أن يبذلها كل داعم أو متعاطف مع القضية الفلسطينية، أو مع وقف إطلاق النار، وعلى رأسها الضغط على المؤسسات الدولية المعنية لممارسة وظائفها، فالصليب الأحمر الدولي كمثال كانت مهمته تأمين إجلاء الأطفال الخدج من مجمع الشفاء الطبي، لكنه ترك بعضهم يموتون، وخلال عملي في المستشفى المعمداني، كان يفترض به أن يعمل على توفير الأدوية، لكنه لم يكن يفعل ذلك، وكنا نعتمد على الهلال الأحمر الفلسطيني في توفير ما تيسر من الأدوية".
ويتابع: "في البداية، لم أكن أستوعب أسباب عدم قدرة منظمة الصحة العالمية على منع اعتقال الاحتلال للطبيب محمد أبو سلمية، مدير مجمع الشفاء، ولماذا لا يتدخل الصليب الأحمر للإفراج عنه، ثم تذكرت ما قالته الكاتبة الأميركية أودري لورد (1934- 1992): إن (أدوات السيد لن تهدم بيته)، وهذه كلها من أدوات السيد. هناك قبول كامل للهيمنة الإسرائيلية، لدرجة أن الصليب الأحمر لا يستطيع إيصال الأدوية إلى فريقه في المستشفى الأوروبي، حتى أنهم لا ينتقدون ذلك علناً".
ويرى أن "هذه الحرب تطرح سؤالاً أساسياً، وهو متى تكون لدينا مؤسسات عربية فاعلة في القطاع الطبي؟ كانت هناك محاولات في 2009 من اتحاد نقابات الأطباء العرب لخلق مؤسسات تمتلك الطاقات البشرية والمعدات والتمويل، لكنها لم تكتمل، والعيب يكمن في الجسم النقابي الطبي. عندنا الكثير من مصادر التمويل، ولا بد من إيجاد منظمات ومؤسسات عربية قادرة على التدخل، فالأزمات في بلادنا لا تنتهي، والحروب مرض عربي مستوطن".
ابتكر الطبيب غسان أبو ستة منهاجا عربيا متخصصا في طب الحروب ومناطق الصراع، ويقول عنه: "الحروب ليست فقط في فلسطين، وإنما في سورية، وفي العراق، واليمن، وليبيا وغيرها من البلدان العربية، فضلاً عن الكوارث الطبيعية، بينما مقررات كليات الطب وكليات التمريض العربية أولوياتها أوروبية أو أميركية. الأمراض التي نتعامل معها مختلفة عن الأمراض في أوروبا، وبالتالي ينبغي أن نعطي طالب الطب العربي منهاجاً يستجيب للأمراض الشائعة، ومن بينها أمراض الحروب، وقد عملنا مع عدة جامعات عربية، من بينها الجامعة المستنصرية في العراق، وكلية الطب في عدن، والجامعة الإسلامية في غزة، وصار هذا المنهاج جزءاً من مقرراتهم، وفي رأيي أنه يجب تعميمه. الكارثة أن كليات الطب العربية باتت تقيس أهميتها بأعداد خريجيها الذين يهاجرون سنوياً، وليس خدمة المجتمع المحلي".
ويواصل: "العدوان على غزة يشهد إجراماً غير مسبوق، لكن تقابله أيضاً مقاومة مذهلة، وأعني هنا المقاومة الإنسانية، فعنصر الإسعاف في غزة يركض إلى عمله وكأنه ذاهب إلى أول أيام العمل، وليس شخصاً منهكاً على مدار شهرين، وهناك عائلات قررت كفالة الأطفال الذين قضى كل أفراد عائلاتهم، وأتذكر طفلاً أجريت له جراحة لبتر اليد والساق، وعمره ثلاث سنوات فقط، وبالتالي لم نتمكن من معرفة اسم عائلته. وعندما ذهبت في اليوم التالي لمتابعة حالته، وجدت سيدة ترافق مصاباً يقبع إلى جواره تحمله بين يديها لتطعمه، رغم أنها لا تعرفه. وهناك الطبيبة التي استشهدت خلال عملها، وقام زملاؤها بكفالة أطفالها. إلى جانب مقاومة الاحتلال، هناك مقاومة للموت. عشرات العائلات تستضيف عائلات نازحة رغم أنها لا تربطها بها أي صلة قرابة أو حتى صداقة، والناس تتقاسم كل شيء، الطعام والمأوى والأدوية والمال".
وحول قصف المستشفى المعمداني، يروي أبو ستة: "في الأوضاع الطبيعية، لن يختلف طبيبان في غزة حول أن المستشفى المعمداني لن يطاوله القصف، لأنه يدار من مجلس كنسي، ومسؤول عنه أسقف في لندن، بينما بقية مستشفيات القطاع لا تتمتع بالحماية ذاتها، وأعتقد أن اختيار الاحتلال الإسرائيلي قصفه أولاً كان نوعاً من جس رد الفعل، فلما كان رد الفعل العالمي بائساً، قرر الاحتلال التمادي في استباحة المستشفيات، وقد طاول القصف بعد المعمداني مستشفيات أطفال، هي مستشفى الرنتيسي ومستشفى النصر ومستشفى محمد الدرة".
ويضيف: "رغم كونها جريمة حرب، تقبّل الرأي العام الغربي الأكاذيب الإسرائيلية التي تروج أن المقاومة هي التي قصفت المستشفى، حتى أن وسائل إعلام غربية لم تكلف نفسها طرح سؤال حول قدرات صواريخ المقاومة مقارنة بحجم التفجير، رغم أن الجميع يعلم أن صواريخ المقاومة غير قادرة على هذا التدمير الذي قتل نحو 480 شخصاً".
يتابع: "لا توجد مستشفيات حقيقية حالياً في قطاع غزة، وبالتالي فإن الجرحى والمرضى يموتون بينما الكوادر الطبية لا تملك فعل شيء لهم. في مرحلة سابقة، كنا نفتقد إلى مطهرات الجروح والمسكنات، حتى أننا كنا نحاول بوسائل بدائية التصدي للالتهابات البكتيرية. كنت أشتري صابون غسل الأطباق، وأخلطه بالخل لاستخدامه في تطهير وتعقيم الجروح. لكن الأعداد كبيرة جداً. عندما قصف مسجد الصبرة، وصل إلى المستشفى المعمداني أكثر من 300 جريح خلال نصف ساعة، وكلهم من العائلة نفس ها، وعندما قصف حي الشجاعية أخيرا، وصل إلى المستشفى المعمداني نحو 600 جريح".
ويواصل: "المستشفيات الميدانية التي وصلت إلى جوار غزة قد تنفع في ظل الأعداد الضخمة من المصابين، فهي وسيلة جيدة للفرز، أو للعلاج الأولي، لكنها غير قادرة على استكمال علاج مئات من الإصابات المعقدة التي تحتاج إلى مستشفيات تخصصية، وأطباء متخصصين. مستشفيات غزة يمكن أن تستعيد قدرتها على العمل الأساسي في غضون أسابيع قليلة، والمستشفى المعمداني كمثال يمكن رفع قدرته إلى ثلاثة أضعاف خلال أسابيع قليلة، وهناك مستشفيات صغيرة، مثل الكويتي، يمكن تطويرها سريعاً عبر إضافة غرف عمليات. حتى أن مجمع الشفاء الذي أصابه تدمير منهجي للأجهزة والمعدات يمكن إعادة تأهيله سريعا لأن المباني ما زالت قائمة".
ورغم حجم المأساة المتواصلة، يقول أبو ستة: "نعمل حالياً على خطط للتعامل مع فترة ما بعد الحرب، فالعمل على علاج 40 ألف جريح في هذا العدوان مهمة ضخمة، وتشمل الخطة إدخال مستشفيات ميدانية، وإصلاح المستشفيات القائمة، وإخراج الجرحى الذين يحتاجون للعلاج إلى خارج غزة. لكن كل هذا يصطدم حاليا بالفيتو الإسرائيلي المدعوم بمساندة أميركية وأوروبية، والذي يرى أنه قصف هؤلاء لقتلهم، وبالتالي فلن يسمح بعلاجهم. الحل هو الضغط العربي والدولي، خصوصا من منظمة الصحة العالمية، المشكلة أن المجتمع الدولي لا يتحرك، حتى أن العرب أنفسهم باتوا يقبلون أن إسرائيل لا يمكن إيقافها، وهذه جريمة. فكرة العقوبات على إسرائيل لا تطرح أبداً، بينما العقوبات تفرض على روسيا وعلى العراق وإيران، لكن ليس على إسرائيل".
ويركز الطبيب الذي يحمل الجنسية البريطانية على فداحة قرار الحكومة البريطانية بالمشاركة في العدوان على غزة، رغم كل التخوفات القائمة في المجتمع وبين السياسيين البريطانيين من اعتبار ذلك مشاركة في جرائم حرب. يقول: "حالياً، تورط جنود بريطانيون في الحرب، ما يعني إمكانية مقاضاة هؤلاء بتهمتي التحريض والمشاركة، فقط لدعم إسرائيل. بعض من يعيشون في غزة لديهم أفراد من عائلاتهم مواطنون بريطانيون، وهؤلاء من حقهم مقاضاة الجنود والسياسيين في المحاكم البريطانية. السلطات أنشأت إدارة لجرائم الحرب بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وهذه الإدارة يمكن أن تتابع كل جرائم الحرب، وهذه القضايا ستنظر في المحاكم المحلية، وبالتالي فإن فرص الفصل فيها أكبر من انتظار المحاكم الدولية. هناك أيضاً حالات مشابهة في الولايات المتحدة، وهذا ينبغي العمل عليه، سواء في المحاكم الجنائية أو المحاكم المدنية، وهناك قضايا مشابهة كثيرة".
ويقول: "شاهدنا تظاهرات ومسيرات ضمت عشرات الآلاف في بريطانيا، ما يعني أن هناك موقفاً شعبياً قوياً وواضحاً، لكن السياسيين في واد آخر. ممثلة منطقتي في لندن مسلمة من أصول بنغالية، والمنطقة فيها أكبر نسبة ناخبين مسلمين، لكنها رغم ذلك صوتت ضد وقف إطلاق النار، وهي متوافقة مع آراء رئيس حزب العمال كير ستارمر الداعمة للصهيونية. هناك إجماع داخل المؤسسة البريطانية الحاكمة على دعم إسرائيل. يختلفون على كل شيء إلا على مساندة إسرائيل. وأتذكر قول أحد مرضاي في المستشفى لي: طول عمرنا فاكرين المحتل هو إسرائيل. لكن اتضح أنها الناطور، ودورها أن تجمع الإيجار وتزعج السكان. بينما صاحب العمارة هو المستعمر الأبيض".
ويوضح أنه "نحن في مرحلة لا بد أن تنتهي سريعاً بهزيمة إسرائيل، فالصهيونية توازي النازية، والحل الوحيد حالياً هو إنهاؤها مثلما تم إنهاء النازية. المجتمع الإسرائيلي حالياً يكرر شعارات إحراق وإبادة الفلسطينيين، وقد شاهدنا عريضة تدعو للإبادة وقع عليها عشرات الأطباء. في المقابل، دور الأطباء العرب محدود، وهذا تراجع كبير، وأتذكر في 2009 أن اتحاد نقابات الأطباء العرب هو الذي قاد ردة الفعل على العدوان، وأدخل مئات الأطباء العرب إلى غزة. إذا نجحت إسرائيل في الإبادة بقطاع غزة، فإن القادم سيكون الضفة الغربية، ثم المثلث، والثمن سيدفعه أيضاً الأردن ولبنان. الرسالة الإسرائيلية واضحة، وهي جعل غزة مثالاً، وهذه العقلية خطر على المنطقة كلها".
البث المباشر | محاضرة عامة للمركز_العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان "تدمير القطاع #الصحي في #غزة: مواجهة #الكارثة و #التهجير"، يقدمها الطبيب والجراح الفلسطيني غسان أبو ستة. https://t.co/lxS8W72J5h
— المركز العربي (@ArabCenter_ar) December 5, 2023
يخشى أبو ستة أن يسمح للاحتلال بأن يحقق بالهدنة ما لم يستطع تحقيقه بالحرب، عن طريق فرض حصار مشدد يمنع إدخال مواد البناء والفرق والمعدات الطبية وغيرها، ويقول: "عندها ستبدأ مرحلة التطهير العرقي شبه الطوعي، إذ يترك الاحتلال الفلسطينيين في غزة لعدة سنوات بدون أي شيء، فيضطرون للمغادرة، وبالتالي يفرغ القطاع من سكانه. إسرائيل انتقلت إلى مرحلة التوقف عن التعايش مع المشكلة الديمغرافية الفلسطينية، والبداية من غزة، ثم تنتقل إلى بقية المناطق. التطهير العرقي واضح المعالم، ومن أمثلته استهداف الجامعة الإسلامية، ثم قتل رئيسها، واستهداف الأطباء ذوي التخصصات النادرة في غزة، مثل استهداف الطبيب همام اللوح، وهو أخصائي الكلى الوحيد في القطاع، وقتله يعني قتل كل مرضاه. إنها سياسة ممنهجة لتفكيك مفاصل الحياة في غزة".