عقب أحداث مسيرات العودة الكبرى التي انطلقت في 30 مارس/ آذار 2018 على الحدود الشرقية لقطاع غزة، وارتفاع أعداد الجرحى، فتحت مصر معبر رفح البري، الذي تتحكم في سير عمله ويشكّل المتنفس الوحيد للغزيين للسفر إلى خارج القطاع، وكان الغزيون على موعد مع هجرة منتظمة إلى دول مختلفة في مقدمها تركيا التي منحت تسهيلات كبيرة للفلسطينيين، تمثلت في تأشيرات فيزا للسياحة والدراسة والعلاج. وهكذا أصبح وجود الغزيين في تركيا واضحاً بين الجاليات العربية، وباتوا يبحثون في شكل متواصل عن تفاصيل بسيطة تجعلهم في ذاكرة غزة ونكهتها عبر الطعام الفلسطيني، وتجمعاتهم المتواصلة.
في منطقة الفاتح بمدينة إسطنبول تكثُر حركة السياح العرب، وتنشط مطاعم تقدم وجبات تجذب أبناء هذه البلدان، ويحمل بعضها اسم غزة بعدما هاجر كثير من أبنائها إلى تركيا وإسطنبول تحديداً، حتى أن الفلافل والشاورما وبعض الأطباق على طريقة الغزيين تعرف باسم غزة.
الأكيد أن الغزيين في المدينة يبحثون عن نكهة تجعلهم قريبين من ذاكرة مدينتهم رغم كل ظروفها الصعبة، ما جعل أصحاب بعض المشاريع يحرصون على ذكر كلمة غزة على الواجهات. لكن الغزيين في تركيا لا يكتفون بقطع عشرات الكيلومترات للوصول إلى هذه المطاعم للتمتع بنكهة مأكولاتها فقط، بل للقاء غزيين آخرين، وتبادل الأحاديث معهم، وحتى لمساندة بعضهم البعض.
مطعم "حمادة"
يملك محمد حماد عقل مطعم "حمادة" الذي يقدم مأكولات وأطباقاً فلسطينية وشاورما وفلافل وفولاً وحمّصاً، ويعمل فيه 25 فرداً، غالبيتهم من فلسطين وسورية والمغرب.
واللافت أن عقل لم يعش سابقاً في غزة، إذ أمضى غالبية حياته في العمل كمهندس كهربائي برفقة عائلته في السعودية، لكن معرفته بغزة وهموم أبنائها زادت بعدما افتتح قبل أربع سنوات مشروعه في قلب منطقة الفاتح. وهو يقول لـ "العربي الجديد": "عرفت غزة حتى أكثر من اللازم عندما رأيت مشاهد الحزن والانكسارات والويلات على كل غزي يأتي إلى هنا. كل شخص أقابله من غزة يحمل قصة معاناة كبيرة. وفيما تشهد تركيا ظروفاً صعبة جداً حالياً بسبب انخفاض قيمة الليرة أمام الدولار، يبقى الغزيون اجتماعيين كثيراً ويعرفون بعضهم البعض، لكن يبدو جلياً أن الحياة كانت قاسية عليهم، ما يجعل بعضهم يعانون من عدم استقرار نفسي في البداية".
وفي مطعم "حمادة"، يجتمع محمد عوض الله (34 عاماً) وأربعة من أصدقائه الغزيين، خصوصاً في أيام عطل يومي السبت والأحد، ويختارون غالباً تناول الشاورما الغزية التي تختلف عن تلك التي تقدمها مطاعم عربية أخرى يملك غالبيتها سوريون، فالخلطة الغزية تتميز بوضع الطحينة والبصل والسماق مع خبز الطابون، ما يمثل بالنسبة إلى عوض الله وأصدقائه نكهة الحنين إلى الوطن.
تخرّج عوض الله في تخصص تكنولوجيا المعلومات عام 2013، وقضى ست سنوات بعد تخرجه من دون أن يعمل سوى مرة واحد كمعلم بعقد سنوي في مدرسة خاصة عام 2017، ثم قرر عام 2019 الهجرة إلى تركيا، حيث يعمل في عامه الرابع في البلاد في مصنع للمنتجات الغذائية، بعدما سبق أن تنقل في عدد من المنشآت الصناعية والتجارية.
فكَّر عوض الله مرات بالهجرة إلى أوروبا قبل أن يتراجع بعدما غرق أحد أصدقائه لدى محاولته العبور إلى إحدى الجزر اليونانية في بداية العام الحالي. وهو يقول لـ "العربي الجديد": "ليست الحياة سهلة في تركيا بل صعبة كثيراً، لكن الفارق أن لا فرص عمل في غزة. الطعام الفلسطيني والغزي يشعرنا بسعادة رغم أنه يذكرنا بآلامنا وأحزاننا، لكنه يبقي لدينا ذاكرة من نحب، والمكان الذي ترعرعنا فيه".
يصادف عوض الله غزيين كثيرين في منطقة الفاتح ومناطق أخرى في إسطنبول ممن قدموا للعمل أو للبحث عن طرق للهجرة إلى أوروبا، وتجمعهم الموائد والأطباق الفلسطينية حتى أنهم يرشدون بعضهم البعض على المطاعم التي تقدم مأكولات غزية.
مطعم "فلافل غزة"
وعلى بعد نحو 500 متر من مطعم "حمادة" يتواجد مطعم "فلافل غزة" الذي يقدم مأكولات شعبية، وأصبح بفروعه الثلاثة معروفاً بالنسبة إلى الغزيين والفلسطينيين عموماً.
يجلس الصديقان مصطفى ماضي (29 عاماً) وعزيز سعد (31 عاماً) إلى طاولة تطل على الشارع، ويتبادلان الحديث عن كل شيء يتعلق بغزة، رغم أنهما عاشا فترات صعبة مع العدوان الإسرائيلي المتكرر، وأمضيا سنوات من دون عمل.
يقول عزيز لـ "العربي الجديد": "نجد في هذا المطعم روح غزة حاضرة في المأكولات. وعندما ننتهي من الأكل نتحلى بالكنافة النابلسية. وقد نجتمع مع 10 غزيين على مائدة واحدة، ونتكلم عن الذكريات. وخلال العدوان الإسرائيلي العام الماضي التقينا في منزل واحد لمتابعة الأحداث والاطمئنان على أسرنا، ثم شعرنا بسعادة عندما أبرم اتفاق الهدنة".
أما مصطفى فيقول لـ"العربي الجديد": "لا نستطيع أن نفصل مشاعرنا عن غزة. أقيم مع عزيز في منطقة سلطان بيه في الشطر الآسيوي من إسطنبول. ونحن نقطع في المواصلات أكثر من ساعة ونصف لنصل إلى هنا، ونأكل أطعمة غزة. أعمل في ميكانيك السيارات وصديقي يعمل في السباكة. العمل هنا جيد لكن الهموم تلاحقنا بسبب تدني قيمة العملة التركية، الليرة، أمام الدولار والغلاء الحاصل".