انسحب جيش الاحتلال الإسرائيلي من عدة مناطق وسط مدينة غزة ومحافظة الشمال بعد أن دمرها بشكل شبه كامل لدرجة أن عددا كبيرا من الأشخاص الذين عادوا إليها لم يتعرفوا على مناطقهم نتيجة الدمار الهائل والركام في كل مكان.
ورغم الدمار الهائل، عاد بعض سكان حي النصر غربي مدينة غزة، وبعض سكان حي الشيخ رضوان، ومنطقة الجلاء، وحي الرمال، وتل الهوا، كما عاد بعضهم إلى مخيم الشاطئ، وإلى مخيم جباليا ومنطقة الصفطاوي وبلدة بيت لاهيا في شمالي القطاع، وحين عاد الأهالي إلى بلدة بيت حانون وجدوا أن جميع المنازل متضررة، إما مدمرة كلياً أو جزئياً.
وقد تفقد البعض منازلهم المدمرة في غزة، وأحضروا بعض المقتنيات المتبقية من تحت الأنقاض، ثم عادوا إلى مدارس الإيواء رغم أنها لا توفر لهم أساسيات الحياة، خصوصاً الطعام والشراب، ويشكل الأطفال النسبة الكبرى من النازحين في داخل المنطقة المحاصرة، ما يجعل المدارس هي خيار النازحين الأفضل.
قرر الفلسطيني عماد بهلول (45 سنة) العيش في خيمة نصبها داخل ركام منزله في حي الكرامة بمدينة غزة، والذي دمر الاحتلال طوابقه الثلاثة، وهو رغم الدمار وكون الخيمة لا يمكنها أن تقيه من البرد والأمطار، إلا أنه يشعر فيها بدفء منزله.
كان بهلول يعيش في البناية مع شقيقه وأبنائهما، ودمر قصف الاحتلال الشقق السكنية والحواصل السفلية التي كانت مصدر رزقهم، إذ كانوا يخصصونها للعمل في ميكانيكا السيارات، وقد استطاع إخراج بعض المستلزمات والمعدات بغرض إفراغ مساحة ليقيموا فيها، وقام بوضع أقمشة في محيط الخيمة للوقاية من البرد.
يقول لـ"العربي الجديد": "نتمسك بالحياة، ولذا نتمسك بالسقف المتبقي وبعض الأحجار. قضيت عدة سنوات من العمل الجاد أنا وشقيقي في ظل الحصار الإسرائيلي الطويل حتى تمكنا من بناء هذا المنزل، ثم دمره القصف، ورغم المخاطر التي تحيط بنا، وطائرات الاستطلاع التي لا تترك سماء غزة، سنبقى في ما تبقى منه".
يضيف بهلول: "نزحنا إلى إحدى مدارس وكالة أونروا في وسط مدينة غزة، وعشنا هناك لفترة جائعين نبحث يومياً عن الماء، وبدون أي مقومات للحياة، ثم جيش الاحتلال إلى محيط المدرسة، وكنا نشاهد الموت كل يوم ألف مرة داخل المدرسة، فقلت لزوجتي: لو انسحب الجيش سنعود إلى منزلنا، حتى لو كان مدمرا ولن يقينا من البرد. الموت سيأتينا في وقت محدد، سواء كنا في مدرسة الإيواء أو في بيتنا المدمر".
ولجأ عدد من سكان بيت حانون إلى المدارس القليلة غير المتضررة في البلدة، وأصبح بعض هؤلاء يقضون يومهم في مكان منازلهم المدمرة، أو بالقرب من أنقاضها، ثم يعودون للمبيت في داخل المدرسة. أحد هؤلاء أحمد المصري (40 سنة)، والذي يؤكد أنه مرتبط بمنزله المدمر في بيت حانون، ويحاول العودة إليه في كل يوم.
يقيم المصري حالياً في مدرسة غازي الشوا الثانوية للبنين، والتي نزح إليها الكثير من سكان بيت حانون، وهو يقضي فيها فترات المساء والصباح المبكر رغم قلة الطعام والملابس والمياه. عاد أحمد مع أخرين إلى منطقته بعد الانسحاب الإسرائيلي من البلدة، والتي تمركز فيها، وحول العديد من منازلها إلى ثكنات عسكرية، وقد صدم عند مشاهدة منزله المدمر. يقول لـ"العربي الجديد": "تغيرت ملامح بيت حانون بالكامل، ولم أعرف المنطقة في البداية، وقضيت وقتا حتى تعرفت على منزلي رغم أن جميع أفراد عائلتي يقيمون في نفس الشارع الذي يطلق عليه اسم (شارع المصريين) نسبة لعائلتي. أحضر مع زوجتي وأطفالي يومياً إلى المكان، وأطفالي يلعبون بالقرب من الركام بينما أجلس لأشاهدهم".
يضيف المصري: "قضى والدي 20 عاماً يبني هذا المنزل، وكان يقول إن الحجر مثل الضنى غالي، وأحاول التفكير بتجهيز مكان لنجلس فيه يومياً بالقرب من المنزل. لا أريد ترك البلدة، لكننا عشنا أياماً صعبة، ولو كان مقدراً لنا الموت بالقرب من منزلنا فلا مشكلة، ونحن راضون بقضاء الله، لكني لا أريد التهجير، والموت أكرم من ذلك، والموت بالقرب من المنزل أفضل دائماً".
ودمر الاحتلال غالبية الأبراج السكنية والبنايات في مدينة الشيخ زايد شمالي قطاع غزة، والقليل المتبقي منها تعرض لأضرار بالغة يجعلها غير صالحة للسكن، والمدينة التي افتتحت في عام 2005، كانت تجمع فقراء غزة، والكثير من أسر الشهداء، والأرامل والأيتام، وبالقرب من تلك البنايات المدمرة اقام عدد من أصحابها خياماً للبقاء فيها.
ونزع بعض النازحين إلى مدارس وكالة أونروا الخيام التي بنوها داخل تلك المدارس، وقاموا بنقلها إلى محيط منازلهم، مؤكدين أنهم يفضلون البقاء في مناطقهم، وأن الإقامة في مراكز الإيواء لا تجدي نفعاً في ظل عدم وجود خدمات تقدمها وكالة أونروا، وكذلك عدم توفر المساعدات الإنسانية، فضلاً عن انتشار الأمراض داخلها بسبب الاكتظاظ الشديد، وعدم توفر الرعاية الصحية.
وعايش آلاف الغزيين في مناطق الشمال حصاراً إسرائيلياً استمر لأكثر من شهرين، وكانت قوات الاحتلال تقيد الحركة في المنطقة التي كانت تضم الكثافة السكانية الأكبر في القطاع بأكثر من 1,2 مليون نسمة، وارتكب الاحتلال عدة مجازر بحق سكانها، كما نفذت العديد من الإعدامات الميدانية، لكنهم يرون أن العودة إلى مناطقهم المدمرة أفضل من مواصلة النزوح، كما أنه جزء من التمسك بالبقاء على الأرض في مواجهة محاولات التهجير القسري التي يحاول الاحتلال دفعهم إليها بكل الطرق.
واعتبر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن الدمار الذي حل بمناطق شمالي القطاع ومدينة غزة هو الأكبر على مستوى محافظات القطاع الخمس، خصوصاً ما جرى في المناطق الحدودية الشمالية التي تضم بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا، وكذلك شرقي مدينة غزة وشرقي محافظة الشمال، والتي قام الاحتلال بإزالة المنازل والبنايات والمصانع والورش التي كانت فيها بالكامل.
بالقرب من منزله المدمر، وضع عبد الكريم حسان (46 سنة) الخيمة التي قام بنقلها من داخل مدرسة الإيواء التي نزح إليها مع عائلته في بلدة بيت لاهيا، وقد جمع بعض الحديد من بين الركام لتقوية خيمته التي يجهزها لتؤوي نحو 20 فرداً من أسرته وأسرة شقيقه الذي استشهد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بينما كان ذاهباً لجلب الطعام من منطقة الترك في سوق مخيم جباليا، وترك أطفاله نازحين.
يقول حسان لـ"العربي الجديد": "لو حاولنا النزوح إلى جنوبي القطاع يمكن ان نستشهد في الطريق، أو يصبح أبنائي أيتاماً، كما أنه لا يوجد مكان آمن في الجنوب، ويمكن أن يصيبنا صاروخ على الحدود المصرية. هناك موت وهنا موت، لكني هنا سأسجل أنني قضيت بالقرب من منزلي، وفي المكان الذي ربيت فيه أبنائي. ذقنا العذاب خلال فترة النزوح إلى المدرسة على مدار الشهور الثلاثة الماضية، ولهذا قررت أن أعيش في خيمة بالقرب من منزلي المدمر، فهذا أفضل من النزوح، وأفضل من التهجير".
ورغم أن مجمع الشفاء الطبي تعرض لانتهاكات كبيرة على أيدي جنود جيش الاحتلال، وشهد خلال نحو شهر، تهديدات، وقصف، واقتحامات، واعتقالات، وسرقة جثامين الشهداء، وتدمير أقسام الرعاية الطبية، إلا أنه يظل في منظور الغزيين أكبر مجمع طبي في القطاع، ولايزال يضم العدد الأكبر من الطواقم الطبية رغم انسحاب كثير من طواقمه، إذ عاد عدد منهم مع آخرين متطوعين، كما يتواجد بداخله العديد من النازحين الذين أعادوا نصب خيامهم في ساحته وفي محيطه لاعتقادهم أنه يمكن أن تصل مساعدات إنسانية جديدة إلى المنطقة المحاصرة بعد انسحاب جيش الاحتلال منها، وأن تعود الحياة رويداً رويداً إليها.
تقيم نسمة أبو حطب (35 سنة) مع أسرتها في حي النصر القريب من مجمع الشفاء الطبي، وتقول لـ"العربي الجديد": "منزلنا مدمر جزئياً، ولدي 3 أطفال، ومعي زوجي وشقيقاتي ووالدتي المريضة، وقد حاولنا العودة إلى منزلنا، لكن الدمار الذي أصابه يشكل خطراً على حياتنا، فالشقة متفحمة بالكامل نتيجة القصف، لكننا نريد البقاء بالقرب من منزلنا حتى نشعر بالقليل من الأمان، ونتطلع أن تتحسن الظروف في مجمع الشفاء الطبي لأن والدتي مريضة بالضغط، ولا نريد النزوح إلى الجنوب".