لم تسلم المواقع التاريخية والمباني الأثرية ودور العبادة التي شُيدت قبل عقود طويلة من الدمار الذي خلفه الزلزالان المُدمّران اللذان ضربا جنوب تركيا وشمال سورية في السادس من فبراير/ شباط الماضي، من بينها أول جامع بني في منطقة الأناضول بعد فتحها من قبل المسلمين، وأقدم جامع داخل حدود تركيا الحالية.
بعض هذه المواقع التي صمدت أمام الزلزال الأول انهارت بعد الثاني، علماً أن الأضرار شملت 10 ولايات، وهي كهرمان مرعش، أدي يامان، غازي عنتاب، شانلي أورفة، ديار بكر، مالاطية، عثمانية، أضنة، هاتاي، وكيليس. أُعلِنت الأخيرة مناطق منكوبة، وأضيفت إليها ولاية آلازيغ، ويقيم في هذه الولايات أكثر من 13 مليون مواطن تركي، من بينهم مليون و700 ألف لاجئ سوري، بحسب أرقام رئاسة إدارة الهجرة.
أحد المواقع البارزة التي تضررت هي قلعة مدينة غازي عنتاب التاريخية. ويعود تاريخ بناء القلعة إلى العصور القديمة قبل الميلاد من قبل الإمبراطورية الحثية، وتم بناؤها وسط المدينة فوق تل عالٍ يمكن رؤيته على ارتفاع حوالي 30 متراً. وأحدث ترميم لها كان بداية عام 2000. ومنذ ذلك الوقت، تحولت إلى متحف يعمل بشكل دوري، ويعرض مختلف بطولات الدفاع عن المدينة. إلا أن الزلزال الأول أدى إلى دمار معظم جدران القلعة.
أما مسجد حبيب النجار، وهو أول مسجد يبنى في البلاد ويقع في مدينة أنطاكيا في ولاية هاتاي، ويعود تاريخ بنائه إلى عام 638 ميلادي، مع فتح المسلمين أنطاكيا، فقد انهارت جدرانه ومئذنته، واختفت الكثير من معالمه التي اشتُهر بها، هو الذي بُني في القرن السابع، وكان أول مسجد يجري بناؤه في تركيا. ويوجد في داخله، على عمق 4 أمتار تحت الأرض، مقام حبيب النجار، أو مؤمن آل ياسين (أول من آمن بالله وترك عبادة الأصنام)، الذي سُمي المسجد على اسمه، بالإضافة إلى النبيين يونس ويحيى.
وتعرضت كنيسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس في ولاية هاتاي، وهي من المواقع الأثرية الدينية المهمة التي بُنيت عام 1364 وتقع في منطقة ألتن أوزو، لأضرار كبيرة في القبة والسقف وبعض الجدران، فيما تصدعت أخرى. وفي ولاية غازي عنتاب، تضررت قبة جامع شيرفاني التاريخي الذي بني عام 1677، ويعد من المعالم الأساسية في المدينة. وفي ولاية أدي يامان، دُمر الجامع العالي بشكل كامل وهو من الأماكن التاريخية، ويعود بناؤه إلى القرن الرابع عشر خلال فترة الحكم المملوكي، ويقع في المدينة القديمة. كما دُمرت جوامع قديمة مجاورة.
وفي ولاية ملاطية، انهار الجامع الجديد الذي بني قبل 123 عاماً. وتعرض الجامع لأضرار بعد الزلزال الأول، ليدمر كلياً بعد الزلزال الثاني.
كما تضررت أسوار ديار بكر بفعل الزلازل. وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (يونسكو) قد أدرجت أسوار المدينة ضمن قائمة اليونسكو للتراث الإنساني. ووفق مصادر تاريخية، فإن الحوريين (شعوب الشرق القديم) سكنوا أسوار القلعة عام 2000 قبل الميلاد، قبل أن يجري إصلاح الأسوار عبر الأحجار البازلتية المتوفرة في المنطقة عام 330م.
القلعة التي لا يُعلم من بناها بالتحديد، ولا يعلم تاريخ بنائها، تحوي آثار الحوريين الذين سكنوا المنطقة منذ 3 إلى 4 آلاف عام قبل الميلاد، ولكن يعتقد في معظم المصادر أن عمرها من عمر المدينة، أي نحو 8 آلاف عام، واستخدمت "حامية عسكرية" خلال عهد الإمبراطورية الرومانية.
وانهار مبنى برلمان ولاية هاتاي التاريخي بشكل كامل. وكان المبنى يعود لهاتاي التي تعرف في العالم العربي باسم "لواء اسكندرون"، عندما كانت تتمتع بحكم ذاتي في فترة ما بعد انتهاء الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية، وكانت محتلة من قبل فرنسا قبل انضمامها إلى تركيا وفق استفتاء جرى عام 1939. وكان المبنى عبارة عن دار للسينما بني عام 1927، وتحول إلى مركز تاريخي مهم في المدينة لينهار بفعل الزلازل التي ضربت المنطقة.
وفي مدينة اسكندرون، انهارت كنيسة اللاتين الكاثوليك التي بنيت عام 1858. كما انهارت كنيسة الأم مريم في منطقة سامان داغ بولاية هاتاي، وتعد كنيسة قديمة رممت عام 1870. وكانت الكنيسة قد دمرت قبل قرون بفعل الزلازل أيضاً. هكذا يمكن الحديث عن عشرات المواقع التاريخية والقديمة والمزارات التي تعرضت لأضرار كبيرة.
وكان من بين المباني المنهارة والمتضررة أيضا كنيس يهودي تاريخي، يعود لنحو 2500 عام، وتوفي فيه المسؤول عن الكنيس شاول جنودي وزوجته، وهو ما دفع الجماعة اليهودية في تركيا للتغريد عبر "تويتر" عقب الزلزال بالقول "انتهت بألم شديد الحياة اليهودية في هاتاي والممتدة إلى نحو 2500 عام". وأثار نقل فريق الإنقاذ الإسرائيلي مخطوطات تاريخية قديمة إلى إسرائيل من الكنيس المنهار جدلاً واسعاً عبر المنصات الإعلامية العربية والتركية، متهمة فريق الإنقاذ بالسرقة، ولكن إسرائيل أعادت المخطوطات، وهي جزء من كتاب إستر الذي يعتبر بدوره جزءا من التناخ، الذي يشكل مع التوراة الكتب المقدسة اليهودية، إلى تركيا مجدداً، بحسب ما أعلنت الجماعة اليهودية عبر "تويتر" لاحقا.
من جهته، يقول المهندس المدني عدنان يافوز، لـ "العربي الجديد": "شهدت المنطقة كارثة كبيرة بكل ما للكلمة من معنى. لا يمكن الحديث هنا عن زلزال واحد أدى إلى انهيار هذه المباني التاريخية. نحن أمام زلزالين كبيرين وهزات ارتدادية أدت إلى انهيار المباني، منها ما انهار خلال الزلزال الأول، ومنها ما انهار لاحقاً". يضيف: "بالتأكيد هي مبان قديمة ونمط بنائها مختلف، ما يجعلها أضعف من المباني الحديثة في القدرة على تحمل قوة الزلازل. كما أن للأراضي المبنية عليها دورا، سواء كانت طرية أو ترابية. هذه العوامل وغيرها أدت إلى انهيار هذه المباني. ومن المعروف أن بعضها كان قد تعرض للدمار سابقاً بفعل زلازل سابقة، وبالتالي كان ينتظر أن تكون هذه المباني التاريخية من بين المباني المتضررة". ويشير إلى أن "عملية الترميم ممكنة في ظل توفر مخططات وصور. لكن هناك حاجة إلى لجان معنية بالآثار والتاريخ، من أجل الاهتمام بالتفاصيل المطلوبة، لإعادة بناء هذه المراكز المنهارة، والحفاظ على أحجارها الأساسية القديمة".