عن حكّام أطفأوا عيون لبنانيين أرادوا الحياة

17 أكتوبر 2020
عنف السلطة (حسين بيضون)
+ الخط -

 تغيّرت حياة الكثير من اللبنانيين منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. واليوم، تحلّ الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة شعبٍ على الطبقة السياسية الحاكمة التي أفقرت مواطنيها وسلبتهم حقوقهم وأودت بالبلد إلى الانهيار. وتستمرّ في ممارساتها التي رفعت معدلات الفقر والبطالة والجوع إلى مستويات غير مسبوقة، ودفعت الشباب والعائلات إلى سلك طريق الموت هرباً من واقع سوداوي، من خلال قوارب الهجرة غير الشرعية.

المشهد القاتم، الذي أضاءت الانتفاضة فيه شعلة نور وأمل ونضال، لم يكن من السهل خرقه. وفي أحيانٍ كثيرة، زادت حدّته نتيجة عجز السلطة عن إدارة الأزمات. وبدلاً من الاستجابة إلى مطالب المنتفضين، لجأت السلطة السياسية إلى أساليب قمعية لمواجهة غضب الشارع، ما أدى إلى حدوث مواجهات عنيفة في الكثير من الأحيان. ونددت المنظمات الدولية باستخدام أسلحة ووسائل غير مشروعة من قبل رجال الأمن، أدت إلى وقوع عددٍ كبير من الجرحى، الذين وإن تغيّرت حياتهم، إلا أنهم رفضوا تبديل مبادئهم.

خلدون جابر، وهو ناشط لبناني، عرفته ساحات الحراك بجرأته وصراحته، التي لم تتأثر على الرغم من التوقيفات والاستدعاءات الأمنية التي طاولته والإصابات التي تعرّض لها. كانت الانتفاضة بالنسبة إليه حصيلة تراكم نضالي على المستوى الشخصي، هو الذي يدرك أنها لن تتكرّر لناحية جوهرها وجماليتها. هذا المشهد غير مسبوق، ولطالما انتظره ليجسّده بعينيه اللتين كانتا تبرقان مع كل صيحة ثورة، أو نداء وطني، أو شعار اتّحد على مصلحة لبنان أولاً، لا الطوائف والأحزاب التي قسّمت اللبنانيين، وأفقرتهم بهدف استغلال أصواتهم، وجعلهم في حاجة دائمة إليها، يقول لـ "العربي الجديد". اعتقِلَ جابر مرّتين. ويقول لـ "العربي الجديد": "أثناء مشاركتي في التظاهرات، تعرّضت لإصابات خطيرة نتيجة التعذيب خلال التحقيقات، ما أدى، بحسب تقرير الطبيب الشرعي، إلى فقداني سبعين في المائة من السمع في أذني اليسرى". كما كسر اثنان من أضراسه، وأصيب بالتواء في عموده الفقري وكسور في الحوض.

يضيف: "كنت أعلم منذ اليوم الأول أن المواجهة ستكون صعبة مع سلطة لا تهتزّ ولم يرفّ لها جفن حتى بعد وقوع انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب الماضي. على الرغم من ذلك، نرفض الاستسلام. عدت إلى الشارع وسأبقى. وعندما يسقط شهداء على مذبح الوطن، تفقد أي إصابة قيمتها ووجعها أمامها، على الرغم من أنها تركت عندي آثاراً نفسية كبيرة يصعب تخطيها".

مشهد تكرّر في تحركات شعبية مطلبية عدّة. وبعد تفجير مرفأ بيروت، كانت هذه التحركات هي الأعنف. نزل اللبنانيون إلى ساحة الشهداء في بيروت يوم 8 أغسطس/ آب الماضي، للمطالبة بتحقيق دولي. وبدلاً من احتواء التظاهرة التي أتت نتيجة حرقة قلب وغضب بعد مجزرة لا مثيل لها في التاريخ الحديث، تركت آثاراً معنوية يصعب ترميمها، وضعت الدولة رجال أمنها في مواجهة المعتصمين الذين أعادوا لساعات صورة 17 تشرين لناحية كثافة المشاركين من مختلف الفئات العمرية، فوجّهوا أسلحتهم إلى عيون المتظاهرين وصدورهم، ما أدى إلى إصابة كثيرين.

جرحى انفجار بيروت (حسين بيضون)

 

وفي الثامن من أغسطس/ آب الماضي، أصيب نسيم ميسر محسن في عينه خلال مشاركته في التظاهرة ليفقد على إثرها نظره. يقول لـ "العربي الجديد": "توجهت إلى الساحة للمطالبة بأبسط الحقوق بعد انفجار دمّر ما تبقّى لدينا من أمل للعيش في الوطن. كانت مشاركتي سلمية، ولم أكن أحمل أي سلاح أو حتى حجر، لكنني تعرضت لإطلاق رصاصٍ مطاطي في الوجه مباشرة من مسافة نحو مترين، من قبل عناصر حرس مجلس النواب الذين كانوا بلباسٍ مدني، ما أدى إلى فقداني النظر تماماً، وكسور في الوجه والعظام. وأجريت لي عمليات عدّة بمساعدة أطباء وجمعيات وأشخاص وقفوا إلى جانبي، على عكس الدولة اللبنانية التي لم تنظر إلى حالتي، بالإضافة إلى نتائج الإصابة التدميرية على حياتي المهنية". ويقول محسن (27 عاماً): "كنت أعمل سائق سيارة تاكسي، لكنني اليوم عاطل من العمل نتيجة إصابتي التي أثّرت على حياتي بنسبة 60 في المائة. القيادة لم تعد أمراً سهلاً. في ساعات الغروب، تصبح رؤية الطريق مستحيلة". يضيف: "حتى اليوم، ما زال الورم يغطي وجهي. لكن الحمد لله، لا أحد يموت من الجوع، والضربة التي لا تقتلنا تقوّينا، وسأشارك في التحركات ولن أترك الشارع والساحات. لكن ما وصلنا إليه في هذا البلد جعل أحلامنا وطموحاتنا تصغر بدلاً من أن تكبر، وبتنا نريد العيش فقط، أي الحياة ولا شيء آخر. لا كهرباء ولا مياه ولا مازوت ولا ثياب. أريد أن أعيش".

محسن الذي تقدّم بشكوى ضد عناصر حرس مجلس النواب بجرم تأليف عصابة مسلّحة ومحاولة القتل والإيذاء المقصود والتهديد بالقتل باستخدام السلاح، يشير إلى أنّ خطوته لم تأتِ بنتيجة. "لو قوّصوا (أطلقوا النار) عصفور يمكن كانوا حسّوا فيه أكثر، أو شعروا بالحزن عليه". يضيف: "مع ذلك، الله كتب لي عمر جديد، ومن أطلق الرصاص عليّ وعلى المشاركين في التظاهرة يومها، وبالمجمل، سيحاسبون من ربّ العالمين". بدوره، يقول الناشط المدني والطبيب هادي مراد، لـ "العربي الجديد": "نحن في تجمّع أطباء القمصان البيض، حوّلنا أحداث تظاهرة 8 أغسطس/ آب إلى قضية دولية، بعدما تقاعست الدولة في تحديد المسؤوليات ومحاسبة مطلقي الرصاص ومستخدمي أسلحة محرّمة دولياً، الذين ارتكبوا فعلاً جرمياً تسبّب في عجز لدى بعض المصابين، وحرمهم نظرهم، وكلّ ذلك لمشاركتهم في تظاهرة بعد فاجعة مجزرة هزّت العالم".

جرحى انفجار بيروت (حسين بيضون)

 

ويلفت مراد إلى توثيق الإصابات من خلال تجميع الصور الشعاعية والتقارير الطبية، التي أظهرت إصابات مباشرة على عيون المتظاهرين وصدورهم. كذلك، "وثقنا بالصور استخدام الرصاص الحيّ وخرطوش الصيد وأسلحة كناية عن قنابل تنفجر عند اصطدامها بالجسد، وقد تكون مميتة أحياناً لصعوبة إخراجها، ما يدلّ على إطلاقها من مسافة قريبة، عدا عن القنابل المسيلة للدموع التي صوّبت على المعتصمين وأدت إلى إصابات في الأذرع والعيون". ويشير إلى أنّه خلال التحرّكات التي تلت انفجار مرفأ بيروت، سجلت أكثر من 720 إصابة، 6 منها خطيرة أطفأت العيون، كانت كفيلة بإسقاط حُكام، وأدانتها منظمات دولية ووثقتها بدورها. أما في بلدنا، لم يرف جفن أي مسؤول لبناني، لا بل عمدت السلطات إلى استدراج الإعلاميين والأطباء إلى المحاكم واستجوابهم.

المساهمون