عقب عملية "طوفان الأقصى"، قامت سلطات الاحتلال بإنهاء عمل آلاف العمال القادمين من قطاع غزة المتواجدين داخل منشآت العمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة عبر إبلاغ أصحاب العمل بسحب تصاريحهم، وجرى اعتقال عدد منهم من الشوارع أو من المنشآت التي يعملون فيها. حصل غالبية هؤلاء العمال على تصاريح من الاحتلال الإسرائيلي للعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة قبل أكثر من عام ونصف بعد سلسلة اتفاقات جرت من أجل تحقيق هدنة طويلة الأمد بين الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع، لكنه ظل يتعامل مع العمال الغزيين من خلال أصناف من التمييز، وفرض عليهم إجراءات أمنية مشددة، فضلاً عن خضوعهم لتدقيق أمني لكل ملفاتهم التي يتم تقديمها في الغرف التجارية الفلسطينية، وكذلك عبر مديرية الشؤون المدنية الفلسطينية، والتي رفض العديد منها بحجج أمنية.
في صباح الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني، أتاح الجيش الإسرائيلي عودة المئات من هؤلاء العمال إلى القطاع بطريقة مهينة، بعد أن احتجز كثيرين منهم داخل سجونه، وقام بالتحقيق معهم وتعذيبهم وتهديدهم، وكانت العودة عبر معبر كرم أبو سالم شرقي مدينة رفح في جنوب قطاع غزة، رغم أن المعبر ليس مخصصاً لمرور العمال، وإنما لمرور البضائع.
ورغم موافقة الاحتلال المسبقة على السماح للعمال الغزيين بالعمل في الداخل المحتل من أجل تثبيت هدنة طويلة الأمد مع المقاومة في القطاع، ألا أن مجلس وزراء الاحتلال الأمني المصغر قرر إعادة جميع عمال غزة المتواجدين في الداخل المحتل والضفة الغربية إلى القطاع، وعدم السماح لهم بالعودة مجددا.
يختبئ كثير من عمال قطاع غزة في مدن الضفة الغربية خشية اعتقالهم
ويقدر عدد العمال المفرج عنهم بنحو 3200 عامل من أصل نحو 18.500 عامل، حسب معلومات الإدارة المدنية الفلسطينية في قطاع غزة، والبقية ما زالوا يتواجدون في مدن الضفة الغربية، وغالبيتهم يقيمون داخل صالات وملاعب، ويخشون طلب العودة إلى قطاع غزة خوفاً من احتجازهم والتحقيق معهم من قبل الجيش الإسرائيلي.
كان عماد محمد (53 سنة) من مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، يعمل في مدينة حيفا في مجال البناء، ويروي أنه في اليوم الثالث من العدوان الإسرائيلي، في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول، سحب المنسق بشكل مفاجئ التصاريح من كل عمال غزة الذين يعملون في الداخل، ثم قرر بعد عشرة أيام بالتنسيق مع مسؤول العمل تسليمهم لمركز الشرطة في مدينة شفا عمرو، حيث قضوا ليلة واحدة.
يوضح عماد لـ"العربي الجديد": "سحبوا من العمال جميع متعلقاتهم، سواء الأموال أو الهواتف، وحتى الملابس، وفى ساعات الظهر قاموا بترحيلنا بسيارات مصلحة السجون المصفحة مكبلي الأيدي والأرجل إلى ما عرفنا لاحقاً أنه سجن عوفر بالقرب من مدينة رام الله، حيث أنزلونا من السيارة المصفحة، واستبدلوا القيود الحديدية بالبلاستيكية، وغطوا أعيننا، وأدخلونا إلى السجن وتركونا في العراء".
ويصف مكان الاحتجاز بأنه "محاط بكتل من الحجارة التي تشكل السجن المغلق من غير سقف، وتبلغ مساحة العنبر نحو ألف متر مربع، وهو محاط بسياج داخلي ارتفاعه حوالى ثلاثة أمتار، وبه ثلاث خيام، وقاموا بتسليمنا فرش وأغطية لنفرشها على الأرض، وبعد ساعة أخرجونا واحداً تلو الآخر لمقابلة ضابط المخابرات، وسط تنكيل متواصل، وربط اليدين وعصب العينين".
يروي عماد أنه "بعد الانتظار الطويل، وسماع أصوات الضرب والصراخ، بدأ التحقيق معي، وسألني الضابط بينما يوجه شاشة كمبيوتر ناحيتي عن معلومات عن القطاع، ثم بدأ المساومة المعروفة ليحصل على إجابات، لكنني بالأساس عامل، ولا أعرف شيئاً، فبدأت أساليب الترهيب والوعيد بمستقبل مظلم، والعودة إلى جحيم القطاع. بعد نصف ساعة أخرجوني إلى الساحة معصوب العينين، وسط ضرب الجنود، ثم أعادوني إلى المعتقل الذي مكثت فيه 18 يوماً. كانت المعاملة قاسية، وكانوا يقدمون لنا الطعام الذي يبقينا على قيد الحياة فقط، قطعة خبز محشوة ببعض المربى في الصباح والمساء، والغداء عبارة عن عشر ملاعق أرز وخمس ملاعق من الخضروات المطبوخة".
مرت الأيام الثمانية عشر على هذا النحو، وبعدها نقلوا الجميع بالحافلات إلى معبر كرم أبو سالم، وتركوهم من دون شيء ليواجهوا مصيرهم المجهول من دون إبلاغهم بأي معلومات عن أهاليهم، أو عن الحرب، وكان العديد منهم يعانون من إصابات بليغة، والتهبت جروح بعضهم.
دخل مئات العمال إلى قطاع غزة بعد أن صودرت منهم أموالهم وهواتفهم، كما سحبت تصاريح دخولهم، والبعض صودرت حتى هوياتهم. يقول سليمان أبو عمران (50 سنة): "كان بحوزتي نحو 9 آلاف شيقل (2400 دولار)، وكنت أخطط أن أشتري هدية لزوجتي التي باعت ذهبها حتى أتمكن من التقدم للحصول على تصريح العمل في الداخل المحتل، والذي كلفني قرابة 3 آلاف شيقل (800 دولار). قاموا بمصادرة أموال جميع العمال الذين كانوا يعملون معي في المنشأة على حدود مدينة يافا المحتلة، وكان معهم مبالغ تتراوح بين 6000 و20 ألف شيقل نتاج عمل شهر كامل".
خضع العمال الغزيون لتدقيق أمني مشدد لكل ملفاتهم قبل منحهم التصاريح
وتعرّض أبو عمران للتعذيب عبر الكرسي الحديدي الكهربائي لأربع مرات، ويقول لـ"العربي الجديد": "عدنا إلى غزة بدون أموال، ولا حتى الجوال، ولا الهوية، وكانت معاملة الاحتلال انتقاما واضحا، وكان معنا شاب مريض من مخيم جباليا، وكشف لهم عن مكان عمليات جراحية في بطنه، لكنهم تركوه بلا علاج حتى توفي".
ويشير إلى أن سلطات الاحتلال أجبرت البعض على البقاء عراة لفترات طويلة، وأن بعض المعتقلين كانوا يصرخون من شدة الآلام التي يعانون منها، لكن الجنود كانوا يتعمدون ضربهم على ذات المناطق التي تؤلمهم، ويضيف: "تعرّضنا منذ البداية للتمييز، ومنحونا تصريحاً اسمه (حاجيات اقتصادية) حتى لا يكون لنا حقوق أو تعويضات في الداخل المحتل، كما تلاعبوا في بعض التصاريح، قبل أن يقرروا إلغاءها جميعا. لقد استخدمونا كوسيلة للانتقام".
وأعلنت هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير الفلسطيني في الخامس من نوفمبر، استشهاد الأسير ماجد أحمد زقول (32 سنة)، من غزة في سجن "عوفر"، وهو أحد العمال الذين جرى اعتقالهم في بداية أيام العدوان الإسرائيلي، وكان الاحتلال قد أخفى جريمة اغتياله طوال الفترة الماضية، إلى أن أعلن ذلك عبر وسائل إعلامه، ولم يتسن للجهات الرسمية الفلسطينية التأكد من هويته إلا بعد فترة.
وأثناء دخول بعض عمال غزة من معبر كرم أبو سالم، كانت الأوضاع تنضح بهول المأساة التي تعرّضوا لها. يقول العامل عزيز النجار (48 سنة) إن معظم العمال كانوا يبكون فرحاً لأنهم عادوا إلى قطاع غزة أخيراً، وإنه شخصياً خر ساجداً على الأرض، وظل يكرر "الحمد لله" لمرات لا يعرف عددها، مضيفا: "حتى لو انتهى العدوان، وفتح الاحتلال الإسرائيلي المجال مجددا أمام العمال للعودة، لن أتقدم للحصول على تصريح عمل في الأراضي المحتلة مهما حصل. حتى لو كان في ذلك الموت جوعاً".
نزحت أسرة النجار من بلدة خزاعة شرقي مدينة خانيونس إلى مدينة رفح في جنوب القطاع بعد تكرار القصف الإسرائيلي على البلدة، ويوضح عزيز لـ"العربي الجديد": "في بداية العدوان، كنا نعمل بشكل عادي، وقد دخلنا قبل أسبوع فقط إلى الأراضي المحتلة، ولا توجد أية مشكلة لدى أي منا، وجميعنا نعمل بشكل نظامي، وليس كما يروج الاحتلال أن من اعتقلهم كانوا مخالفين، أو يعملون بدون تصاريح. في العاشر من أكتوبر، تم إبلاغ أصحاب العمل بان أهل غزة تم سحب التصاريح منهم، واعتقلت رفقة مجموعة من العمال القادمين من مناطق شرق مدينة خانيونس، وتعرّضنا للتعذيب والتوبيخ لانتزاع أية معلومات، وبعضنا وُجهت إليه تهمة نقل معلومات، وكل هذا عارٍ عن الصحة".
يتابع أن "أحد الأصدقاء كان يعمل معي داخل إحدى المنشآت القريبة من مدينة العفولة، واسمه فؤاد الطويل، وقد اتصل بعائلته فور دخولنا من المعبر، ليكتشف أن نجله أحمد (25 سنة) من بين شهداء قصف الاحتلال، وأن أسرته نزحت بالفعل، وكثير من العمال الذين اتصلوا بعائلاتهم لحظة دخولهم غزة اكتشفوا أن عائلاتهم باتوا من النازحين، وأن بعض ذويهم شهداء".