عطش غزة... منع إدخال الوقود يحرم الأهالي من المياه

05 يونيو 2024
يشارك الأطفال في غزة في تأمين المياه بشكل يومي (عمر القطا/ فرانس برس)
+ الخط -

رافق العطش الغزيين في مراحل مختلفة من العدوان الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر الماضي، ويعود اليوم إلى الواجهة بسبب ندرة الوقود وعدم القدرة على تشغيل محطات تحلية المياه.

صباح أول من أمس الثلاثاء، أعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في قطاع غزة، عن توقف عدد من محطات تحلية المياه بسبب ندرة الوقود في القطاع، وخصوصاً داخل مناطق جنوب قطاع غزة ووسطه، حيث يوجد أكثر من مليون ونصف المليون مُهجّر. 
وتعمل أونروا وعدد من المنظمات العاملة في قطاع غزة بطاقة محدودة داخل مناطق معينة في جنوب قطاع غزة ووسطه، بسبب استمرار إغلاق معبر رفح البري، وتقييد دخول المساعدات إلى قطاع غزة من معبر كرم أبو سالم، وإلغاء إدخال المساعدات عبر الرصيف البحري. لكن أخيراً، تقلصت الخدمات بسبب عدم توفر الوقود، ولم تتمكن الوكالة من إدخال الوقود لتشغيل أكثر من 20 محطة تحلية.
يومياً، تزداد أعداد المهجرين في منطقة المواصي، غرب خانيونس، ومدينة دير البلح، وقد أصبحوا مضطرين إلى قطع مسافات طويلة للوصول إلى آبار المياه القليلة القريبة من شارع صلاح الدين، وهو أحد أطول شوارع القطاع والموجود في شرق مناطق وجود المهجرين، بمسافة تصل إلى أكثر من سبعة كيلومترات سيراً على الأقدام، أو يعتمدون على التنقل عبر عربات تجرها حيوانات.
وعاد عدد من محطات التحلية الموجودة في جنوب القطاع ووسطه للعمل بعدما وفرت لها جهات دولية، مثل أونروا وبرنامج الأغذية العالمي، كميات محدودة من الوقود ضمن مساعدات إنسانية خلال الأشهر الماضية، لكن دعمها توقف منذ السابع من مايو/ أيار الماضي عقب سيطرة جيش الاحتلال على معبر رفح الحدودي مع مصر، والذي كان يعد الممر الرئيسي لإدخال المساعدات الإنسانية وسفر جرحى العدوان والمرضى.
يقول الغزيون إنهم يواجهون عطشاً شديداً. يحسب البعض كمية المياه التي سيشربها في اليوم الواحد. ويوضح البعض منهم أنهم يشربون لتراً واحداً من المياه في اليوم، فيما يعجز آخرون عن تحديد الكمية التي يشربونها، كحال يوسف زيادة (46 عاماً)، الذي يصارع خلال الأسابيع الأخيرة لتعبئة زجاجات المياه، ولم يتمكن خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من تعبئة المياه بالكامل.

ويوضح زيادة أنه أحد الذين يبحثون بشكلٍ متواصل عن مصادر المياه، ويقيم داخل مدرسة بنات دير البلح الإعدادية، وسط مخيم دير البلح. وكانت أونروا تحاول تأمين المياه للمهجرين داخل مدارسها بشكلٍ دوري، لكن سرعان ما تفرغ الخزانات التي خصصتها في الساحة الخلفية للمدرسة، ثم بدأت تتقلص كميات المياه التي توفرها الوكالة، كما يشير إلى أن عدداً من المهجرين من خارج المدارس ومناطق الخيام الجديدة التي أنشئت عقب عملية رفح الأخيرة كانوا يقصدون المدرسة للحصول على المياه. لكن خلال الفترة الأخيرة، فإن جميع النازحين في المدرسة يخرجون ويقطعون مسافات طويلة للحصول على المياه، بحسب زيادة، الذي يعاني من انتفاخ كبير في ساقيه وأورام كونه مصاباً بمرض السكري.
ويقول لـ"العربي الجديد": "يومياً، أقطع مسافات طويلة للحصول على المياه. وفي بعض الأحيان، نقترب من شارع صلاح الدين رغم خطورة الأمر، وتحديداً بلدة المصدر التي قصفها الاحتلال مراراً. ويحاول البعض الاقتراب من تلك المناطق لأن فيها خزانات مياه، وقد أصيب شابان في المدرسة لاقترابهما من المناطق الشرقية للحصول على المياه". يضيف أن "المسافات التي أقطعها يومياً تزيد الألم في ساقيّ. كنت أسمع أن الحروب مستقبلاً ستكون من أجل الحصول على المياه، لكن الاحتلال الإسرائيلي جعلنا نعيشها اليوم. ندرك أننا نذهب إلى الموت ونسير تحت تهديد البنادق الإسرائيلية وبين الحُفر والأجسام المشبوهة قرب بعض الآبار. يضاف إلى ما سبق الشجارات اليومية بيننا كمواطنين لأننا نصطف في طوابير في بعض المناطق، ثم نعجز عن الاحتمال طويلاً بسبب شدة العطش".

أزمة المياه في غزة (محمود ذكي سالم عيسى/ الأناضول)
يضطر أهالي غزة إلى تحديد كميات المياه التي يشربونها يومياً (محمود ذكي سالم عيسى/ الأناضول)

وفي منطقة المواصي، غرب مدينة خانيونس، تتكوّم الكثير من الزجاجات البلاستيكية قرب الخيام استعداداً لتعبئتها في أي لحظة، وسط انعدام المياه الصالحة للشرب، كما يقول سليمان برهوم (47 عاماً)، الذي يتمنى الحصول على مياه مالحة بشكل يومي حتى يشربها هو وأبناؤه، مشيراً إلى أنه يمضي ساعات يومياً لتأمين المياه بسبب عدم توفرها، عدا عن أنه موجود عند أطراف منطقة المواصي، ما يعني أنه بعيد عن كل شيء.  
برهوم من سكان مدينة رفح، وقد هجر أخيراً هو ومعظم أفراد عائلته بعدما دمر الاحتلال منزله ومنازل الكثيرين من عائلته في المنطقة الشرقية لمدينة رفح، ولم يتمكن من نقل حاجياته الأساسية، هو الذي نجا وعائلته من الموت في اللحظات الأخيرة، وهو يعتمد على بعض الزجاجات الملقاة على الأرض أثناء نزوحه وهو يسير نحو مدينة دير البلح.
يقول برهوم لـ"العربي الجديد": "منذ شهر أشرب مياهاً ملوثة وشديدة الملوحة، فقط لأنني اريد البقاء على قيد الحياة. مررنا في مراحل عدة عرفنا خلالها نقصاً في المياه قبل أن نتمكن من تأمين مياه صالحة للشرب. ثم اضطررنا إلى شرب المياه المالحة ثم مياه الأمطار وبعدها تلك التي نحصل عليها عبر المساعدات. ثم عدنا لشرب المياه الملوثة. نموت بشكل بطيء وما من أحد ينظر إلينا من المجتمع الدولي". يضيف: "في بعض الأحيان أشرب مياهاً غريبة اللون. ولا يسعني إلا تذكر المياه التي كنت أشربها وخصوصاً تلك الباردة. نعيش حرماناً من كل شيء. وأعاني من الارتجاف الشديد بعدما أصبت بحالة عصبية منذ بداية العدوان، وقد فقدت الكثير من أفراد عائلتي وشقيقي محمد". ويقول صديق برهوم، الموجود معه في الخيمة نفسها مع عائلته محمد محسن: "نحاول الهرب من العطش من خلال البقاء في الظل، علماً أنه يتوجب علينا القيام بمهام يومية لتأمين الطعام والشراب".

أزمة المياه في غزة (محمود ذكي سالم عيسى/ الأناضول)
يقطع فلسطينيو غزة مسافات طويلة لتأمين المياه (محمود ذكي سالم عيسى/ الأناضول)

وكانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين قد حذرت في بيان لها من تداعيات توقف عمل محطات تحلية المياه في قطاع غزة، مطالبة السلطات الإسرائيلية بـ"توفير الوصول إلى المياه بشكل فوري، إذ أصبح البقاء على قيد الحياة تحدياً كبيراً". ويلاحظ العاملون في نقاط عمل أونروا أن الأطفال يُدفعون للسير مسافات طويلة على الأقدام للحصول على المياه، بالإضافة إلى النساء.
من جهة أخرى، أعلنت بلديات القطاع، بالإضافة إلى بلدية رفح، توقف كل خدماتها في نهاية الشهر الماضي. وقالت بلدية غزة، وهي أكبر بلديات القطاع، بالإضافة إلى بلدية النصيرات وبلدية خانيونس وبلدية بلدة بيت لاهيا، أنها عاجزة بشكل كامل عن أداء عملها، فيما توقف العمل بالكامل في محطات التحلية، علماً أنها شهدت توقفاً منذ بداية الحرب بشكلٍ متكرر، لكن كانت هناك محاولات خلال الشهر الماضي لإعادة تشغيلها من دون أن تنجح بسبب عدم إدخال الوقود. ويقول المهندس البيئي من سلطة المياه الفلسطينية عماد أبو سلامة إن قطاع غزة يعيش الظروف الأسوأ منذ بدء العدوان، بعدما أغلقت جميع منافذه البرية بالكامل وسط استمرار تدمير آبار المياه ومحطات المياه الكبيرة منها في مدينة رفح أثناء عملية رفح الأخيرة في منطقة شرق المدينة، بالإضافة إلى تدمير عدد من الآبار الطبيعية فيها. ويشير أبو سلامة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي دمر أكثر من 80 من آبار قطاع غزة التي تتمركز في مناطق حساسة وأخرى في مناطق حدودية، وخصوصاً في المنطقة العازلة التي احتلها، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من آبار المياه التي كانت موجودة في وسط قطاع غزة، والتي كانت تزود الغزيين بالمياه، وأخرى لنقاط تجمع المياه الجوفية وري المزروعات وخصوصاً في مناطق وسط قطاع غزة، ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "المياه التي كان يتلقاها الغزيون في الأيام الأخيرة لا تتناسب والمعايير الصحية، لكنها كانت ضمن مرحلة مؤقتة.

وتسببت قلة الحصول على المياه في وفيات عدة وانتشار الأمراض بسرعة عبر المياه. والسؤال في المرحلة المقبلة هو عن مستقبل المياه بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي. إذ يشهد قطاع المياه في غزة مرحلة غير مسبوقة، بل إن هناك كارثة ترتبط بتوزيعها لأن غالبية البنية التحتية مدمرة. يحتاج قطاع غزة إلى تدخلات ومشاريع دولية ضخمة لإنقاذ مستقبل المياه فقط وليس لتأمين مياه صحية".
وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، قد أعلنت عن حدوث انخفاض كبير في إنتاج المياه النظيفة في جميع أنحاء قطاع غزة، ما أثر على وصول حوالي 500.000 شخص إلى خدمات إمدادات المياه. ويعزى هذا الانخفاض إلى الأضرار التي لحقت بالعديد من المرافق، بما في ذلك محطات المعالجة والآبار ومحطات الضخ، والتي أصبحت غير صالحة للعمل بسبب القصف المستمر، أو نقص الوقود، أو عدم إمكانية الوصول إلى أعمال الصيانة.

المساهمون