"لا يكتمل مشهد السياحة في الولايات التركية ومدينة إسطنبول خصوصاً من دون منمنمات وتلاوين الشوارع". هذا ما يقوله صاحب شركة "ياشام" للسياحة محمود آلتن باش لـ"العربي الجديد" مضيفاً: "تبقى مشاهد عربات بيع الكستناء في ذاكرة السياح الذين يلتقطون صوراً إلى جانبها أكثر من تلك في موقعي سور القسطنطينية أو الجامع الأزرق".
ويؤكد باش أن "بيع الكستناء في الشوارع ليس مهنة لأشخاص عاطلين عن العمل، إذ تسهّل الدولة وجود عربات عرضها وتسويقها، وتتعمّد عدم ملاحقة أصحابها الذين تعتبر أنهم يشكلون أحد طقوس السياحة التركية، ويروجون أطعمة لا توجد إلا في تركيا، مثل الكوكوريتش، وهي أمعاء خروف الضأن ملفوفة بدهن، أو الميديّي، وهي بلح بحري محشو بأرز متبل، إضافة إلى السميت (كعك تركي)، وأيضاً الكستناء (أبو فروة) التي تتقدم كل أصناف الأطعمة المعروضة للبيع، ولا تخلو أي ساحة كبيرة في إسطنبول من عرباتها".
ويتحدث باش عن أن فرق عزف الموسيقى والغناء بلغات عدة التي تجول في ساحة تقسيم المكتظة بالناس، تكمل إلى جانب عربات البائعين الملامح السياحية للساحة التي لا تنام، وتزيد جذب السياح.
والعربات الحمراء التي تبيع الكستناء، كما يسميها الأتراك، من تقاليد الساحات الكبيرة في مناطق أمينونو والسلطان أحمد وتقسيم، وزبائنها من السياح حصراً، لأنها "تبيع الكستناء بسعر مضاعف من السوق، في حين يأكل الأتراك السميت من العربات"، كما تقول سمرة آيدن لـ"العربي الجديد".
تضيف: "للكستناء طقوس وتقاليد في تركيا، إذ يُصنع منها مربى وعصير وحلوى الكستناء التي تباع في بعض المحلات، وأصلها من مدينة بورصة حيث تباع في شوارعها السياحية".
وتعد حلوى الكستناء من الأطعمة التقليدية في بورصة، وتحضّر بطرق مختلفة، ولا يطلبها الأتراك وحدهم، بل السياح الذين يشترون كميات كبيرة منها.
ويتفق كثيرون على أن الكستناء التي تنتشر زراعتها بكثرة في مناطق مرمرة وايجه والبحر الأسود مصدر مهم للبروتينات والدهون والطاقة خلال فصل الشتاء، علماً أنها توفر عائدات بملايين الدولارات لتركيا من تصديرها إلى دول عربية وإيطاليا وفرنسا.
ويقول صاحب عربة لبيع الكستناء المشوي في ساحة تقسيم يدعى بولانت تاش لـ"العربي الجديد": "أتواجد في الشتاء والصيف في المكان ذاته، لكن موسم الكستناء شتوي، وإقبال السياح والعابرين عليها أكثر من الأتراك، ربما لأنها تباع بسعر مرتفع. وأنا أشتري النوعية الجيدة الكبيرة بسعر 250 ليرة تركية للكيلوغرام الواحد (9 دولارات)، وأبيعه بعد الشوي بنحو 600 ليرة (19.5 دولاراً)".
ويوضح أنه يشق حبة الكستناء بسكين قبل أن يضعها على الفحم من أجل تسهيل وتسريع نضجها، ويسبق ذلك مرحلة تشميع أي نصف استواء، أنفذها خلال ساعات النهار، حين يكون الإقبال قليلاً، تمهيداً لتحضيرها في شكل أسرع للزبائن خلال الليل.
وفي حين تراجع البيع بسبب ارتفاع الأسعار، وبات معظم الزبائن يشترون بين 50 و100 غرام، يشير تاش إلى أنه ينادي على بضاعته، أو يضرب بالملاقط على صاج معدني، لكن الروائح الناتجة عن شوي الكستناء تظل الإعلان الأهم، و"نحن نتعمد وضع قشور الكستناء على الفحم في شكل دائم كي تصدر الروائح".
ويتحدث أيضاً عن أن الإقبال على الكستناء المحمصة المشوية على الفحم أكثر من الإقبال على مربى الكستناء التي تنال شهرة أكبر، وتزداد مبيعاتها خلال مغادرة السياح تركيا، إذ يأخذونها معهم كهدايا. وتعتبر ولاية بورصة الأكثر شهرة في صناعة مربى الكستناء.
ويشتهر مربى الكستناء الذي يعرف أيضاً باسم "كستنا شكري" بتركيا و"مارون غلاسيه" في فرنسا والعالم، في مدينة بورصة، ويتضمن حبات الكستناء مضافاً إليها ماء وسكر وبعض الفانيليا لإكسابها نكهة مميزة لا مثيل لها.
وتأتي تركيا في المرتبة الثالثة عالمياً، بعد بوليفيا والصين، في إنتاج الكستناء الذي يزيد عن 64.750 طناً سنوياً، ويتركز في مناطق مرمرة وايجه وولايات بينها بورصة، لكن ولاية أيدن (غرب) تنتج نحو 42 في المائة من إجمالي الكمية في تركيا، أي 27 ألف طن سنوياً، على مساحة 73.433 دونماً، بحسب ما تفيد مديرية الزراعة والغابات في الولاية.
ويعتبر كستناء تشيا الصغيرة البرية التي تنمو بين أشجار البلوط القديمة، من دون مواد حافظة أو مبيدات، في منطقة البحر الأسود الأفضل على الإطلاق، وتنقل مباشرة من الشجرة إلى المائدة، أما إذا وضعت في مستودعات فقد تشكل الديدان مشكلة.
وتمر عملية قطف الكستناء التي تخضع لحماية المؤشر الجغرافي، بمراحل صعبة وخطيرة في أقضية عدة، من بينها أفلار، وكوشك، وسلطان حصار، ونازيللي، حيث يضطر المزارعون إلى صعود هضاب ومرتفعات توجد على سفوحها أشجار الكستناء، ثم يفصلون الحبات عن مخاريطها الشائكة استعداداً لإرسالها إلى الأسواق الخارجية والداخلية.
ويتسلق المزارعون الرجال أشجاراً بارتفاع بين 15 و20 متراً، ممسكين بعصا يبلغ طولها 3 أمتار من أجل تحريك الثمار وإسقاطها أرضاً. ثم تجمع نساء يرتدين قفازات لحماية أيديهن من الأشواك الحبات، ويضعنها في أكياس تزن 50 كيلوغراماً، ينقلها الرجال إلى أماكن التخزين.
ويتطلب القطف مهارات عالية، علماً أن هذا المحصول يعتبر غالي الثمن. وتتكرر حوادث سقوط مزارعين عن الأشجار، وإصابة آخرين بعمى نتيجة الأشواك التي تتطاير من مخروطات الكستناء. ويشدد مزارعون على "أهمية الحذر خلال تنفيذ عملية قطاف الكستناء وعدم وضع ثقل الجسد على الأغصان الرفيعة".
وتختلف الكستناء الحلوة الصالحة للاستهلاك البشري عن "كستناء الحصان" السامّة التي تباع علفاً للحيوانات. وتشير دراسات إلى أن كستناء الحصان "باكاي" والكستناء الإسباني تتسببان في مشكلات بالجهاز الهضمي، مثل آلام البطن، والغثيان، والقيء وتهيّج الحلق للبالغين، وصعوبات في المشي، وربما شلل وارتعاش العضلات، وتهيّج خطير في المعدة للأطفال، أما الكستناء المناسبة للاستهلاك البشري فتنتمي إلى أنواع الكستناء التي تحتوي على نسبة عالية من النشاء والكربوهيدرات، ومعدلات منخفضة من الدهون والبروتين.