- الأسر السودانية تنزح بحثًا عن تعليم لأبنائها رغم التحديات الاقتصادية، لكن اللاجئين يواجهون صعوبات في الالتحاق بالمدارس، والبنية التعليمية تضررت بشكل كبير بسبب النزاع.
- منظمات دولية مثل يونيسف تحذر من أزمة تعليمية، مع تسعير الجهود لإعادة فتح المدارس وتوفير بيئات آمنة، لكن التحديات تظل كبيرة في ظل النزاع والحاجة لدعم مالي ولوجستي لإعادة تأهيل البنية التعليمية.
أحدثت الحرب في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع تأثيراً كبيراً على العملية التعليمية في البلاد، إلى درجة بقاء 19 مليون تلميذ خارج المدارس. وكان علي عبد القادر (13 عاماً) يدرس في الصف المتوسط الثاني حين اندلعت الحرب في 15 إبريل/ نيسان عام 2023. ومنذ ذلك اليوم، لم يرجع إلى مقاعد الدراسة بعد تعليق العام الدراسي الماضي وعدم القدرة على إطلاق العام الدراسي الجديد. اليوم، يبيع الحلويات خلف طاولة صغيرة على الشارع العام ليساعد أسرته، وينتظر قرار استئناف العملية التعليمية، ويخشى ضياع مستقبله في حال استمرار الحرب.
ما يعيشه عبد القادر ينسحب على تلاميذ كثيرين، خصوصاً الذين نزحوا من مدنهم الأصلية إلى ولايات أكثر أمناً، فيما بقي آخرون في منازلهم وقد سئموا مشاهدة التلفاز واللهو في الشوارع وحتى الألعاب الإلكترونية. في المقابل، اختارت عائلاتٌ المغادرة إلى دول الجوار بحثاً عن الأمان والخدمات ولضمان تعليم أولادها. من هؤلاء أسرة عثمان سيد أحمد التي غادرت إلى مصر وألحقت ابنها في مدرسة خاصة، واضطرت لدفع حوالي 700 دولار. ويقول سيد أحمد لـ "العربي الجديد" إن المؤسّسات التعليمية في السودان، وتحديداً في الخرطوم، تحتاج سنوات لتعود إلى ما كانت عليه. اختار البقاء في السودان بعدما سافرت أسرته لضمان إرسال المال إليها، وقد أيقن أن الحرب ستطول، واختار تأمين مستقبل عائلته.
وإن حالف الحظ عائلة أحمد، فإن آلاف التلاميذ اللاجئين في مصر أو تشاد أو جنوب السودان لم يتمكّنوا من الالتحاق بالمدارس بسبب ظروف عائلاتهم الاقتصادية، التي اضطرّت إلى إعطاء الأولوية للسكن والمأكل والمشرب. وتقول الناشطة في مجال الدعم والإسناد التعليمي، أسماء التوم، لـ"العربي الجديد"، إن تدمير أماكن التعليم هو أحد أشكال الانتهاكات في أثناء الحرب، وأنه "سيصعب على التلاميذ العودة إلى المدارس لأنهم سيكتشفون أن كثيرين من زملائهم قتلوا جرّاء الحرب". تضيف أن الجميع يشعر باليأس بسبب انهيار العملية التعليمية.
وكان وزير التربية والتعليم، محمود سر الختم الحوري، قد كشف في وقت سابق عن دمار وتخريب 40% من المؤسّسات التعليمية في ولاية الخرطوم التي انطلقت منها شرارة الحرب، أي حوالي 1500 مدرسة. وبحسب مراقبين، تضاعف العدد بعد تمدّد العمليات العسكرية في ولايات أخرى، وخصوصاً ولايات دارفور الخمس، وولايات كردفان الثلاث وولاية الجزيرة. وذكر أن المتبقّي من مدارس الخرطوم تعرّض للنهب، وهو ما حدث لمقر وزارة التربية والتعليم ومقرات مكاتب التعليم في المحليات.
ويقول عضو لجنة المعلمين السودانيين، عمّار يوسف، إن عاماً من الحرب أحدث ضرراً في أربعة أركان أساسية للتعليم: البيئة المدرسية بعدما تحوّلت مدارس كثيرة إلى ثكنات عسكرية وصارت أهدافاً مباشرة لطرفي القتال، فيما تحوّلت مدارس أخرى في الولايات الآمنة إلى مراكز إيواء للنازحين. المعلمون الذين كانوا يعيشون أوضاعاً سيئة قبل الحرب وتفاقمت بعدها، ومر عامٌ من دون أن يتقاضى معظمهم رواتبهم، فيما حصل بعضهم على رواتب ثلاثة أشهر فقط، موضحاً أن من بين ثمانية ملايين سوداني نزحوا من ديارهم، هناك عدد قليل من المعلمين، إذ اختار معظمهم البقاء لضيق أحوالهم المادية. وبالتالي، اضطرّوا إلى العيش تحت وابل الرصاص والقصف المدفعي والغارات الجوية.
ويكشف يوسف عن مقتل 13 معلماً في ولاية الخرطوم في أثناء القتال، عدا عن اعتقال وتعذيب آخرين. وقال إن لجنته لم تتمكّن من إجراء إحصاءات مماثلة في دارفور وكردفان والجزيرة. أما الركن الثالث في العملية التعليمية، فهو التلاميذ الذين خرجوا من دائرة التعليم ووصل عددهم إلى 19 مليوناً، منهم ستة ملايين في المرحلة الابتدائية، ويتوقع أن يتحولوا إلى أميين، ليضافوا إلى ثلاثة ملايين طفل تسرّبوا من المدارس في فترات سابقة، مبدياً خشيته من استمرار الحرب. يتابع يوسف أن لجنة المعلمين لا ترفض استئناف الدراسة، بل تتحدّث عن شروط شمولية التعليم في كل أنحاء السودان، والالتزام بأجور المعلمين، وتوفير أماكن إيواء بديلة تليق بالنازحين الذين سكنوا في المدارس، بالإضافة إلى إعادة تأهيل المؤسّسات التعليمية والعملية التعليمية بدعم دولي وإقليمي.
وقد أصدرت منظمّات دولية بيانات وتقارير وإحصائيات تحذر من واقع مظلم للتعليم في السودان، الذي كان يعاني أصلاً جراء ارتفاع نسبة الأمية إلى أكثر من 60%، ومشكلات أخرى. وتقول منظمّة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ومنظمّة أنقذوا الأطفال إن واحداً من كل ثلاثة تلاميذ سيكون خارج المدرسة، في وقت أغلقت أكثر من عشرة آلاف مدرسة أبوابها في المناطق المتضرّرة من النزاع.
وأوضحت مسؤولة الاتصالات والإعلام في مكتب "يونيسف" في السودان، ميرا ناصر، لـ"العربي الجديد"، أن الحرب في السودان تسبّبت بواحدة من أكبر الأزمات التعليمية في العالم اليوم، مع إغلاق المدارس في جميع الولايات تقريباً منذ إبريل/ نيسان العام الماضي. وأشارت إلى وجود حوالي 19 مليون طفل خارج المدرسة، وقالت إن لهذا "تأثير ليس فقط على التعلم، وإنما أيضاً على الصحة العقلية ورفاهية الأطفال في جميع أنحاء البلاد، كما يعرّض مستقبل السودان للخطر".
وأكّدت ميرا ناصر أن "يونيسف" في السودان ملتزمة بدعم استمرار تعليم الأطفال بكل الوسائل خلال الأزمة الحالية، ودعت حكومة السودان إلى فتح المدارس، حيث يكون الأمر ممكناً وآمناً. وقالت إن المنظمّة تعمل مع الجهات المانحة والشركاء لتقديم منح مدرسية صغيرة للمساعدة في إعادة فتح المدارس. كما أنشأت ودعمت أكثر من ألف مكان آمن للتعلم في جميع أنحاء السودان، ولا يزال 535 منها نشطاً، ما يوفّر فرصاً للتعلم وتنمية المهارات لنحو 290 ألف طفل. وأفادت بأن 81 ألفاً حصلوا ضمن مساحات التعلّم الآمنة على المعلومات والمهارات والدعم الذي يحتاجون إليه ليصبحوا شركاء نشطين في استجابة "يونيسف" للتعليم في حالات الطوارئ في السودان. كذلك يقودون الأندية الرياضية والثقافية والصحية أو يشاركون فيها بشكل هادف، ما يعزّز تطورهم ورفاهيتهم. وتوضح أن المنظمّة دعمت منصّة Learning Passport، وهي منصّة على الإنترنت أنشأتها للفتيات والفتيان في المناطق الساخنة من خلال التعلم عن بعد. وحالياً، هناك 46 ألف فتاة وفتى مسجّلون في برامج التعلم الرقمي.
وأكّدت ميرا ناصر الحاجة إلى مزيد من الدعم، متمسّكة بوجوب إعادة فتح المدارس في السودان بشكل عاجل، وحثت أطراف النزاع على ضمان عدم استخدام المدارس أو مهاجمتها، وضمان سلامة الأطفال في الذهاب إلى المدرسة. وقالت "التعليم في حالات الطوارئ ينقذ الأرواح من خلال توفير بيئة تعليمية آمنة ومستقرة، وتزويد الأطفال بإمكانية الوصول إلى الدعم النفسي والاجتماعي، والمشاركة مع الأقران، والشعور بالحياة الطبيعية. كما يمكنه منع الممارسات الضارة مثل عمالة الأطفال وزواج الأطفال وتجنيدهم.
آثار نفسية واجتماعية على أطفال السودان
وتحدّثت الباحثة الاجتماعية سمية البصير عن جملة آثار اجتماعية ستظهر نتيجة توقّف الدراسة، لافتة إلى أن التلميذ الذي يجد أن مدرسته تحوّلت إلى ملجأ أو ثكنة، ويستمر في سماع أصوات الرصاص بدلاً من صوت الأجراس، سيشعُر بالضياع، عدا عن التغيير الكبير في نمط حياته إلى الأسوأ بعدما كان يتطلّع إلى تحقيق هدف الانتقال إلى صفٍّ جديد، ما سيؤثر على نفسيته وسلوكه. وقالت لـ "العربي الجديد" إن الأسرة وجدت نفسها غير قادرة على التفاعل مع التلاميذ لأنها متضرّرة، ما سيؤدّي إلى اضطرابات في بنية الأسرة جرّاء الحرب، التي تسبّبت في اختلال النظام الأسري. وتوضح أن التلميذ، مهما كان عمره، سيجد نفسه يستمع إلى قصص الموت والرعب والتوترات العرقية والمواضيع السياسية والخلافات العائلية، الأمر الذي سيؤثّر على نموّه العاطفي والاجتماعي، وستزداد المخاوف لديه وقد يعاني من مشكلات سلوكية، منها الميل إلى الانتقام والحدّة والشراسة بنسب متفاوتة، وبحسب مستوى الدعم العاطفي الذي تقدّمه الأسرة.
تعد ولاية نهر النيل شمال السودان الولاية الوحيدة من بين 18 ولاية سودانية التي بدأت العام الدراسي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، متحدّية، كما يقول مسؤولون فيها، كل عقبات الحرب رغم انتقاد بعضهم الخطوة ودعوتهم إلى العدالة، على أن يشمل استئناف الدراسة كل ولايات السودان. وقال وزير التربية والتعليم في الولاية أحمد حامد موسى، لـ "العربي الجديد": "بدأت الفكرة مبكَراً بعد إعداد دراسة عن وضع المدارس وفرص بدء العام الدراسي تحت شعار رفعته حكومة الولاية، أن "التعليم لن ينتظر". وتحدّث عن عقبات واجهت العام الدراسي في الولاية، منها سكن النازحين في المدارس، ونقص الكتب المدرسية، وصعوبة استيعاب الطلاب الوافدين بسبب أعدادهم الكبيرة، بالإضافة إلى مشكلة أجور المعلمين.
وأفاد موسى بأنهم وضعوا حلولاً لتلك العقبات، تمثلت في إيجاد أماكن بديلة للوافدين، وحصر الطلاب الوافدين وإلحاقهم بمدارس الولاية، عدا عن حل مشكلة دفع أجور المعلمين، مؤكّداً أن الولاية كانت أمام تحدٍّ حقيقي، واستطاعت تجاوزه بما في ذلك دفع الأجور، وبدء العام الدراسي وإنهاء الفصل الأول. وأوضح أن الوزراة قرّرت، في ظل ازدحام المدارس جرّاء قدوم 160 تلميذا من ولاياتٍ أخرى، العمل بنظام الدوامين، مشيراً إلى نجاح كل الخطوات وتحقيق شعار التعليم لا ينتظر.