يعيش الغزيون الكثير من المصاعب في ظل استمرار النزوح والقصف ونقص الغذاء ومياه الشرب، ويقف الآلاف في طوابير يومية داخل مناطق ومراكز الإيواء للحصول على أي طعام متوفر، فالغذاء في القطاع شحيح للغاية، والطوابير طويلة، وقد يمتد الوقوف فيها من السابعة صباحاً حتى ساعات الظهر للحصول على قليل من الأطعمة.
تقوم إدارة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" في معظم مراكز الإيواء بتحديد حجم الكميات اليومية التي توزع على النازحين من بين المساعدات الإنسانية التي تأتي عبر الجهات المانحة، والتي تدخل يومياً من معبر رفح البري، لكن تلك المساعدات تكفي بالكاد لتوفير وجبة واحدة صغيرة لآلاف الغزيين الذين ينتظرونها لساعات، وتحصل الكثير من المشاكل اليومية خلال التوزيع.
تداول غزيون عبر مواقع التواصل الاجتماعي صورة من داخل مدرسة تابعة لوكالة "أونروا"، يظهر فيها موظف يرتدي سترة الوكالة، وبالقرب منه لافتة تحدد حجم المساعدات اليومية لكل فرد، والتي كانت صادمة كونها تشير إلى منح كل 11 فردا علبة واحدة تضم الحمص والبازيلاء واللحم، وكل 17 فرداً علبة واحدة من الفاصوليا، وكل 5 أفراد علبتي حلاوة طحينية واحدة، وكل فردين مغلف بسكويت واحد.
كانت اللافتة مهينة، وهاجم كثيرون سياسة توزيع المساعدات على النازحين في مراكز الإيواء، وبعد تداولها على نطاق واسع، لم تعد مراكز الإيواء تضع لافتات جديدة بالكميات خشية انتقاد سياسة التوزيع، وأصبحت تكتفي بتوزيع الكميات بناء على الأعداد المسجلة في مراكز الإيواء.
نحو 1.4 مليون نازح حالياً في 156 منشأة تابعة لوكالة أونروا بقطاع غزة
يترقب النازحون في مدرسة ذكور خانيونس الابتدائية بقلق إمكانية حدوث الاجتياح الإسرائيلي في ظل التهديدات المتواصلة لسكان المدينة، وهم يحصلون بشكلٍ يومي على مساعدات غذائية لم يتغير حجمها أو تتبدل محتوياتها على مدار شهر كامل، وغالبيتها من الأغذية المعلبة، في حين لا تتوفر الخضروات أو الفواكه ضمن المساعدات، فالموجود منها في السوق قليل، وهي غالية الثمن منذ بداية العدوان.
نزحت هيام أبو لبن (42 سنة) من مخيم الشاطئ أثناء القصف، تاركة داخل المنزل المال والمصوغات والمتعلقات الشخصية. خرجت الأسرة المكونة من نحو 20 فرداً مع الأقارب من النازحين من شمال القطاع إلى الجنوب من دون شيء تقريباً.
في كل صباح، تقوم أبو لبن بإيقاظ أبنائها الخمسة حتى يذهبوا معها لاستلام المساعدات الغذائية اليومية. تسير إلى مكان التوزيع محبطة لا تحاول التفاعل مع أحد، حتى في الطابور الذي يكون غارقاً في الضوضاء، ويشهد الكثير من الشكاوى، وأحياناً يتطور الانتظار إلى مشاكل بين الناس، أو مع طواقم أونروا الذين يوزعون الطعام. تقول لـ"العربي الجديد": "عندما يبدأ توزيع الطعام يتحول الطابور المنظم إلى طابور عشوائي، فالجميع يعانون من شدة الجوع، والكل يريدون الحصول على الأغذية بعد طول الانتظار، وغالبية الأشخاص في الطابور لديهم أسر تنتظرهم، وفي بعض المرات تحصل حالات إغماء لمواطنين من شدة الانتظار والإرهاق، أو من قلة تناول الطعام".
تضيف: "لا نريد أن نعتمد على المساعدات لأننا نتعرض لمذلة كبيرة. نقف في طابور طويل لساعات للحصول على عدة معلبات وبعض الأطعمة غير الصحية، فلا تنوع في أصناف الطعام، وفي كثير من الأيام أقضي يومي جائعة، وقد تعرضت للإغماء عدة مرات، وطلب مني الطبيب تناول كل ما يتوفر من طعام. لا بديل أمامنا سوى أن نظل مستسلمين لسياسة التوزيع هذه حتى انتهاء العدوان".
في داخل مدرسة ذكور رفح الإعدادية، يتناول النازحون بعضاً من المعلبات من دون تجهيزها على النار لعدم توفر وسائل إنضاج أو تسخين الطعام. يقول النازح يوسف حلاوة (36 سنة): "معلبات الفول طعمها سيئ، وفي الفترة الأخيرة، يقوم كثيرون بتناول محتويات المعلبات مباشرة مع الخبز، رغم أنه يفضل تسخينها على الأقل. لكن إمكانيات تجهيز الطعام محدودة".
نصف مليون نازح خارج مراكز الإيواء في غزة يحصلون على مساعدات
يشتكي حلاوة من قلة كمية المساعدات اليومية التي يتم توزيعها عليهم في المدرسة، ويؤكد أنها لا تكفي لإشباع أطفاله الثلاثة، وأنهم يقضون الكثير من الليالي جائعين، إذ لا يملك كثير من النازحين المال لشراء الطعام، فقد خسر غالبيتهم كل ما يملكون، وسياسة توزيع المساعدات لا تسد جوعهم. يقول لـ"العربي الجديد": "لم أشعر منذ أكثر من أسبوعين بالشبع، وفي كثير من المرات أقوم بتجهيز علبة الفول والحمص مع مياه مضاعفة، وتسخينها في إناء كبير حتى تخرج كمية أكبر من الطعام تكفي أسرتي المكونة من خمسة أفراد، وأسرة شقيقي التي تقيم معنا، ورغم ان الطعام سيئ، لكنه أيضاً قليل، ونريد الحصول على كمية أكبر حتى يمكننا مقاومة الجوع".
يضيف: "نعيش وسط مجاعة حقيقية، فعندما أخرج لشراء أي شيء من أجل الأكل، لا يكفي المال الذي أحمله، فكل الأشياء غالية، ولا أستطيع توفير طعام سوى عبر أونروا، ومهما حاولت الحصول على مساعدات لا أستطيع، فالكل يخبرنا أن هذه هي الكمية المتاحة، وقد تحولنا من أصحاب منازل وأراض إلى أشخاص يترددون على أماكن توزيع المساعدات من أجل مكافحة الجوع".
وخصصت وكالة أونروا بطاقة للنازحين لضمان استمرار حصولهم على المساعدات، ويسجل ولي أمر الأسرة فيها الأعداد والتصنيف، سواء كانت الإقامة داخل مركز الإيواء أو خارجه، كما يسجل فيها ما تم استلامه من فرش وأغطية، ومواعيد استلام المساعدات الأسبوعية والدورية لمن يقيمون خارج مراكز الإيواء، بينما من هم داخل مراكز الإيواء يحصلون على مساعدات غذائية يومية.
ويوجد ما يقارب 1.4 مليون شخص نازح حالياً في 156 منشأة تابعة لوكالة أونروا، مع وجود نحو نصف مليون نازح أخرين مسجلين للحصول على الخدمات التي تقدمها الوكالة، ويبلغ متوسط عدد النازحين داخل كل مركز تابع لأونروا في مناطق الوسط والجنوب نحو 12 ألف نازح.
ويقول القائم على أحد مراكز توزيع المساعدات في مدينة رفح، خليل الشريف، إن "مراكز التوزيع تعمل ضمن خطة طوارئ قاسية، وتشهد مشاكل عديدة مع تكدس النازحين، ومحاولات الجميع الحصول على الطعام، ما يخلق زحاماً يؤثر على العمل، وكذلك وجود حالات تسول كبيرة من عائلات انقطعت بها السبل، وغالبيتها تقيم بعيداً عن مراكز الايواء".
ويبين الشريف لـ"العربي الجديد"، أن "كميات الطعام اليومية التي توزع على النازحين في مراكز الإيواء هي الكميات التي تم الاتفاق عليها من جانب إدارة أونروا بناءً على تحليل كميات المساعدات التي تتلقاها من الجهات العربية والدولية، وفي بعض الأيام التي يصل فيها عدد شاحنات أكبر، نقوم بزيادة الكميات المخصصة لكل أسرة. حالة اليأس الكبيرة المنتشرة بين الناس التي تأتي يومياً إلى مستودعات أونروا لأخذ المعونات مبررة، ويمكننا كذلك تفهم أفعال هؤلاء الذين يحاولون قطع طريق شاحنات المساعدات للحصول على الطعام، وهذا أمر نراه بشكلٍ شبه يومي، إذ لا يوجد أي نوع من الحماية لمسار شاحنات المساعدات، ما يجعل من الصعب على أونروا تأمينها، بينما الناس جائعون، ويعيشون كارثة إنسانية كبيرة".
وتشير الوكالة الأممية مؤخراً إلى أنها تتعرض لضغوط إسرائيلية، وقيود مباشرة على صعيد تلقي المساعدات، وأصدرت بياناً كشفت فيه أنها تلقت خلال نهاية العام 2023، انتقادات من مسؤولين إسرائيليين تحمل الوكالة بشكل مباشر المسؤولية عن الثغرات في عمليات تسليم المساعدات داخل قطاع غزة.
وقد جرى تضخيم هذه الانتقادات من قبل وسائل الإعلام العبرية، وبعض وسائل الإعلام الدولية، وتم تداولها بشكل واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما خلق سيلاً من المعلومات المضللة، في حين لا يزال إيصال المساعدات العاجلة التي تشتد الحاجة إليها محدوداً من حيث الكميات، إضافة إلى كون العملية كلها محفوفة بالعقبات اللوجستية.
وتؤكد أونروا أن هناك "حالة جوع محتملة" في قطاع غزة، وتوضح في بياناتها أنه لا ينبغي أن تكون التقييمات الأخيرة بشأن الجوع في غزة مفاجئة نظراً للانخفاض الشديد في حجم الإمدادات، والانهيار شبه الكامل للقطاع الخاص، معتبرة أن جميع سكان القطاع يعتمدون بشكلٍ أساسي خلال العدوان المتواصل على المساعدات الإنسانية في توفير الغذاء.