تُواجه خدمات التأمين الصحي في السودان أزمة كبيرة تصل إلى حدّ الانهيار، نتيجة تراكم المشاكل، وكان آخرها تلكؤ وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي عن دفع استحقاقات المستشفيات والمراكز الصحية. ويشكو الصندوق القومي للتأمين الصحي (مؤسسة تكافلية تُعنى بتوفير خدمات الرعاية طبية) التجاهل والإهمال الحكومي، وعجز وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي عن تمويله، علماً أنه يقدم الخدمات الصحية لأكثر من 25 مليون مواطن من الفقراء وذوي الدخل المحدود.
خلال الأيام الماضية، أوقفت مراكز صحية خدماتها احتجاجاً على عدم حصولها على مستحقاتها المالية في مقابل خدماتها. وامتدت الأزمة من الخرطوم إلى ولايات أخرى مثل جنوب دارفور، حيث أضرب الأطباء عن العمل مطالبين بزيادة رواتبهم. وفشلت خلال الأسابيع الماضية محاولات وزارتي المالية والتخطيط الاقتصادي والتنمية الاجتماعية والصندوق القومي للتأمين الصحي في التوصل إلى حلول لسد العجز المالي الذي يصل في بعض الولايات إلى تريليون جنيه (مليون و754 ألفا و385 دولارا)، على غرار ولاية الجزيرة وسط السودان.
وبدأت خدمات التأمين الصحي في السودان عام 2003، معتمدة نظام استقطاع شهري للفرد، فيما التزمت مؤسسات اجتماعية مثل ديوان الزكاة بدفع اشتراكات الفقراء وذوي الدخل المحدود، ليرتفع عدد المشتركين إلى 65 في المائة، يحصلون على العلاج في 3193 مركزاً صحياً و2712 صيدلية.
لكن في ظل المشاكل التي يشهدها القطاع الصحي أخيراً، عقب توقف خدمات التأمين الصحي، حرم 400 ألف متقاعد من العلاج خلال الأيام الماضية. ويوضح الأمين العام لمنظمة متقاعدي الخدمة المدنية، صلاح عوض أحمد، في حديثه لـ "العربي الجديد"، أن الدولة تكفلت منذ عام 2016 بدفع اشتراكات المتقاعدين بواقع 418 مليون جنيه في العام (نحو 733 ألفا و333 دولارا)، لكن وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي لم تدفع المبلغ المطلوب للمراكز بداية العام الجديد، ما دفع المؤسسات إلى وقف خدماتها للمتقاعدين، مشيراً إلى أن المنظمة تحركت واجتمعت مع وزير المالية والتخطيط الاقتصادي جبريل إبراهيم الذي وافق على دفع المستحقات، الأمر الذي قد يتحقق خلال الأيام المقبلة.
يضيف عوض أن التأمين الصحي للمتقاعدين وغيرهم يحتاج إلى إصلاحات كبيرة بعدما تراجعت خدماته أخيراً، ولا يجد المتقاعدون العلاج والأدوية التي يحتاجونها، ما أدى إلى زيادة معاناتهم وخصوصاً أنهم بغالبيتهم يعانون من أمراض مزمنة ومن ظروف معيشية صعبة، في ظل تدني رواتب التقاعد الشهرية التي لا تتجاوز 18 ألف جنيه (نحو 31 دولارا). ويتوقع أحمد رفعها في الموازنة الجديدة إلى 80 ألف جنيه (نحو 140 دولارا). ويدعو إلى زيادة مساهمة الدولة في علاج المتقاعدين لأنهم أكثر عرضة للأمراض، وتأمين الأدوية اللازمة لهم.
في هذا السياق، يقول محمد علي النجومي، وهو مُدرّس في المرحلة الثانوية مُصاب بمرض مزمن ومشترك في التأمين الصحي، ويتقاضى حوالي 86 ألف جنيه (نحو 150 دولاراً) شهرياً، إنه يصرف منها نحو 50 ألفاً (نحو 87 دولاراً) لشراء الأدوية التي يندر أن يجدها في صيدليات التأمين الصحي، ما يضطره إلى شرائها من صيدليات أخرى. ويتوجه بعدها إلى إدارة التأمين ومعه الفاتورة لاسترداد ما صرفه، إلا أنها لا تدفع له المبالغ كاملة، بحجة أن السعر الذي تضعه الإدارة يختلف عن السعر في الصيدليات.
يضيف النجومي في حديثه لـ "العربي الجديد" أن جميع المشتركين يعانون بسبب عدم توفر الأدوية، على الرغم من المبالغ التي تحسم شهريا من رواتبهم. كما أن المستشفيات بعيدة عن مناطق سكنهم ومناطق عملهم. ويجتاز بعض المعلمين مسافات طويلة للوصول إلى المستشفيات والمراكز الصحية، كما تفتقر المستشفيات والمراكز الصحية إلى المتخصصين. ويشير إلى أنه انتظر أكثر من 5 ساعات لقدوم الطبيب الذي يعتذر في كل مرة، مؤكداً أن أي إصلاح في منظومة التأمين الصحي يبدأ بتوفير كل الأدوية في الصيدليات، وزيادة مساهمة الدولة في نفقات التأمين، ومنح خصوصية لعدد من الشرائح مثل المعلمين الذين يعانون قبل كل شيء من ضعف رواتبهم في ظل الأوضاع المعيشية المعقدة.
أما المواطن حاتم محمد صديق، فيشير إلى سوء معاملة المراجعين من قبل مكاتب صندوق التأمين، موضحاً أنه تقدم بشكوى ضد أحد العاملين من دون أن تتخذ بحقه أية إجراءات. وتختلف الرسوم المالية التي تفرض على المواطنين من موظف إلى آخر. يضيف في حديثه لـ "العربي الجديد" أن "القوانين والشروط تختلف بين الصندوق وشركات التأمين، الأمر الذي يربك المواطنين. يُضاف إلى ما سبق غياب المتخصصين، وعدم دقة الفحوصات الطبية، وعدم توفر الأدوية".
أما الصيدلي مجدي طه، فيرى أن السياسة التي اتخذتها وزارة المالية في الفترة الماضية ستدمر كل القطاعات بما فيها القطاع الصحي ومنظومة التأمين الصحي على وجه التحديد، موضحاً أن المشتركين وتحديداً مرضى السرطان لا يجدون الأدوية، الأمر الذي أدى إلى وفاة البعض. ويطالب في حديثه لـ "العربي الجديد"، المسؤولين بزيادة الاستقطاعات الشهرية كجزء من العلاج في حال عدم الحصول على دعم وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي. ويقترح ابتكار آليات جديدة، على غرار ولاية الجزيرة التي لجأت إلى دعم المستشفيات بالأجهزة الطبية، وزيادة الاستثمار واستيراد الأدوية من خلال شركات تابعة لإدارة التأمين الصحي، بالإضافة إلى صناعة الأدوية.
من جهته، يقول عضو لجنة أطباء السودان المركزية علاء نقد، إن التأمين الصحي شهد تطوراً كبيراً في أعقاب الثورة السودانية عام 2019 من خلال إعادة الهيكلة والضغط على الحكومة وتوجيه كل الإمكانيات لدعم الخدمات الصحية بدلاً من توجيهها لأغراض سياسية. ويشير في حديثه لـ "العربي الجديد" إلى أن كل محاولات الإصلاح تلاشت كما غابت الشفافية عقب انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2021، إذ تدهورت الخدمات وامتنعت وزارة المالية عن الدفع، وبدت وزارة التنمية الاجتماعية عاجزة عن حل المشاكل.