صامدون في ضاحية بيروت... حفاظاً على الرزق وأهون من مراكز الإيواء

01 نوفمبر 2024
بعد قصف أحد مباني القرض الحسن في الضاحية (فاضل عيتاني/ فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- يصر الحاج أحمد صالح على فتح دكانه يومياً في الغبيري رغم الغارات الإسرائيلية، بعد انتقاله للعيش مع ابنته في عين الرمانة بسبب الحرب.
- تواجه العائلات في الضاحية الجنوبية تحديات كبيرة في تأمين احتياجاتها اليومية، مثل ناديا رحال التي تعمل في صيدلية وتعتمد على الأقارب لتوفير المواد الغذائية.
- يواصل محمد عمله في بلدية الغبيري لإزالة الردم، بينما يعتمد غدي نعيم على الطاقة الشمسية للبقاء في منزله، متمسكين بمناطقهم رغم المخاطر.

يقضي المسن أحمد صالح ساعات يومه في دكانه الصغير، مصدر رزقه الوحيد. يومياً، يبدأ عمله عند السادسة صباحاً بعدما يُغادر منزله المؤقت في منطقة عين الرمانة في بيروت مُتوجهاً نحو متجره المتواضع في قلب منطقة الغبيري بالضاحية الجنوبية لبيروت، التي تعرضت لعدة غارات عنيفة طاولت المباني السكنيّة.  
لم يُغادر الحاج أحمد المنطقة، بل قرّر منذ بدء الحرب الإسرائيليّة على لبنان، فتح أبواب محله بشكل يوميّ. ومع توسع الحرب، اضطر إلى مغادرة منزله الواقع في منطقة صفير في الضاحية الجنوبية التي تحولت إلى منطقة مهجورة وخالية من السكان، وانتقل إلى منزل صغير في حي عين الرمانة على أطراف الضاحية الجنوبيّة، تملكه ابنته المقيمة خارج الأراضي اللبنانيّة. يروي لـ "العربي الجديد" يومياته خلال الحرب، مؤكداً رغبته بعدم إغلاق المحل. يقول: "لا أريد ترك منطقتي. قررت البقاء هنا حتى وإن كانت حياتي معرضة للخطر، فالأمر متروك لله. أفتح محلي يومياً، وأبيع من البضاعة الموجودة في داخله، تلك التي اشتريتها قبل الحرب، ثم أقفل عند الظهر وأعود إلى البيت، إذ تصبح المنطقة خالية بالكامل بعد الثالثة خوفاً من بدء الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبيّة".  

في منطقة الغبيري، فضلت عشرات العائلات البقاء. لا خيارات كثيرة أمامها وربما هذا واقع لا مفر منه لكثير من السكان. جالت "العربي الجديد" في الضاحية الجنوبيّة وتحديداً في مناطق الغبيري، والشياح، والحدث، وصفير، والجاموس، تلك التي تعرضت لغارات إسرائيليّة عنيفة. في الغبيري الواقعة بين منطقة الشياح وأوتوستراد هادي نصرلله، أغار الطيران الإسرائيلي على فروع لمؤسسة "القرض الحسن" الموجودة في المنطقة، وعلى مبان في شوارع هذه المنطقة. ويتبين من خلال المعاينة، أن الشوارع ليست خالية من السكان بشكل كليّ، بل هناك القليل من الحركة التي تحاول إحياء المنطقة ولو لساعات قليلة في اليوم. عشرات العائلات اختارت البقاء في بيوتها لعدم قدرتها على البقاء طويلاً في مراكز الإيواء. كما أن أصحاب بعض المتاجر فتحوا محلاتهم بالرغم من الغارات شبه اليومية على المنطقة وجوارها، وقلة الزائرين أو الزبائن للمنطقة.  
ويشرح الحاج أحمد قائلاً: "أملك هذا المحل منذ سنوات طويلة، هو مصدر رزقي الوحيد. أعيش وحدي في لبنان إذ إن عائلتي بأكملها خارج الأراضي اللبنانية. لدي زبائني وهم أبناء المنطقة وجوارها. كنت أضع الكثير من البضائع داخل هذا المحل. ومع بداية الحرب، توقفت عن شراء البضاعة وبدأت ببيع ما أملك. في منطقة عين الرمانة يزودني تاجر ببعض البضائع في حال انقطاعها من محلي، ومع اشتداد الغارات على الضاحية الجنوبيّة، بدأ أصحاب المولدات الكهربائية في المنطقة بقطع التيار الكهربائي أو بتقنين ساعاته، لذلك ينقطع التيار الكهربائي عدة ساعات خلال النهار، فأطفأت البرادات. وخلال زيارة أهالي المنطقة لبيوتهم لتفقدها، يقصدني بعض الزبائن ويشترون السكاكر والحلويات لتناولها خلال تفقدهم منزلهم. أما احتياجات المطبخ اليومية كالزيوت أو أدوات التنظيف وغيرها، فلم تعد تُباع كالسابق، لأن الزبائن يقصدون منازلهم لبضع دقائق فقط".  
في أحد أحياء منطقة الغبيري، تقطن ناديا رحال، التي فضلت البقاء في منزلها بدلاً من التوجه نحو مراكز الإيواء. تشير في حديثها لـ "العربي الجديد" إلى أنها كانت قد غادرت المنطقة نحو منطقة أكثر أماناً لكنها لم تصمد طويلاً. تقول: "فضلت العودة إلى منزلي إذ لم نشعر بالراحة أبداً، بل شعرنا بضيق وعجز كبيرين لأسباب كثيرة". رحال موظفة في صيدلية في الضاحية الجنوبية، تتابع عملها بعدما بات الدوام يقتصر على ساعات قليلة في اليوم الواحد. فالصيدلية تفتح في الصباح الباكر وتقفل أبوابها باكراً تحسباً للغارات الفُجائية.  
تعيش مع والدتها وشقيقتها الصغرى البالغة من العمر ثماني سنوات. وعند بدء المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، بنشر الخرائط على منصة "إكس"، تدقق فيها. وحين يتبين أنها قريبة، تغادر والدتها وشقيقتها نحو دوار الطيونة في منطقة الشياح على أطراف الضاحية الجنوبية، حيث تنتظران حوالى الساعتين إلى حين انتهاء الغارة، ثم ترجعان إلى المنزل. منذ فترة، بدأت إسرائيل بشن غارات على مراكز مؤسسة "القرض الحسن" في الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان والبقاع. وخلف منزل هذه العائلة الصغيرة، كان يوجد أحد مراكز هذه المؤسسة، فطلبت من شقيقتها ووالدتها الذهاب نحو منطقة الطيونة، إلا أن ناديا لم تُغادر المنزل أبداً. تقول: "حين أغار الطيران الإسرائيلي، شعرت بأن الصاروخ سقط فوق سقف منزلي، لكن لا خيار آخر لي. بقيت في غرفتي ولن أغادر البيت مرة أخرى".

يتفقدون الدمار في الضاحية الجنوبية (فاضل عيتاني/ فرانس برس)
يتفقدون الدمار في الضاحية الجنوبية (فضل عيتاني/ فرانس برس)

في الضاحية الجنوبيّة، المحال التجارية مُقفلة بشكل شبه كامل، باستثناء بضعة محال في بعض الأحياء، هي التي يزورها من قرر البقاء في المنطقة صامداً أمام الصواريخ الإسرائيليّة. تقول إنها تؤمن احتياجات المنزل اليومية من المحال التي تفتح أبوابها لساعتين فقط. أما الأطعمة التي لا تتوفر في المنطقة، فيحاول أحد أقاربها تأمينها من خارج الضاحية الجنوبية.  
في السياق نفسه، فإن الشاب محمد وهو موظف في بلدية الغبيري، لم يغادر منزله في الضاحية الجنوبية كونه يحتاج إلى متابعة عمله في البلدية بشكل يوميّ. ويقول لـ "العربي الجديد" إنه بقي وحيداً في المنزل بعد مغادرة عائلته، ويقضي غالبية وقته في عمله، لإزالة الردم والمساعدة في فتح الطرقات المقفلة بسبب تراكم الردم وتحطم المباني. وبعد نشر الخرائط التي تستبق قصف المباني السكنية في الضاحية الجنوبية، يبدأ بمطالبة أهالي المنطقة المهددة بالقصف عبر مكبرات الصوت بإخلاء شققهم وأحياناً من خلال إطلاق الرصاص في الهواء. وعند انتهاء عمله، يتجه نحو أحد النوادي الرياضية في منطقة الطيونة لممارسة التمارين الرياضية، ثم يعود إلى منزله للنوم. يقول: "شبكة الاتصال لم تعد قوية كالسابق، حتى أن أصحاب المولدات الكهربائية باشروا بتقنين ساعات التيار الكهربائي عن المنطقة بسبب مغادرة غالبية السكان لشققهم السكنية".  
أما الشاب غدي نعيم، فقد فضل البقاء في منزله الكائن في منطقة بئر العبد رافضاً ترك المنطقة. يقضي غالبية وقته داخل منزله معتمداً على ألواح الطاقة الشمسية التي تزود منزله بالتيار الكهربائي المُستمر. ويقول: "منذ أيامٍ، أغار الطيران الإسرائيليّ على أحد المباني القريبة من منزلي حيث كنت موجوداً داخل غرفتي أمارس هوايتي المفضلة وهي لعب البلاي ستايشن. في اللحظة التي قُصف فيها المبنى المهدد من قبل الطيران الإسرائيلي، لم أسمع صوت انفجار الصاروخ، إذ كنت أضع سماعة الأذنين، لكن المبنى اهتز بي وتحركت بقوة من مكان جلوسي من جراء عنف الغارة. وبعد انتهاء القصف، توجهت إلى غرفتي للنوم".  
في حرب يوليو/ تموز عام 2006، لم يُغادر غدي منزله أيضاً. يقول: "الأصوات قوية ومخيفة أحياناً. لكني اتخذت قراراً بالبقاء وعدم مغادرة المنطقة". يتابع: "في كل يوم، يتفقد أهالي المنطقة بيوتهم بعد الغارات العنيفة في ساعات الليل، ألقي عليهم التحية ثم أعود إلى منزلي، وحين أحتاج إلى وجبات غذائية، أتوجه نحو محال العاصمة لأشتري ما أحتاجه".  

هذا هو الحال في الضاحية الجنوبيّة التي تُعاني منذ أكثر من شهر بسبب غارات يوميّة في مختلف المناطق اللبنانية. وفي وقت عمد آلاف السكان إلى إخلاء شققهم السكنية والتوجه نحو مدينة بيروت، لا يزال هناك عائلات قررت البقاء في منازلها، لعجزها عن إيجاد شقق سكنية بأسعار متواضعة، أو لصعوبة إقفال متاجرها التي اعتاشت منها لسنوات طويلة ولا تملك سواها. 

المساهمون