كرر الاحتلال الإسرائيلي قصف المقابر، وجرف العديد منها، كما منع الوصول إلى غالبية المقابر الرسمية، ما دفع أهالي غزة إلى دفن شهدائهم في الأراضي الخالية القريبة من مناطق سكنهم، في ظل استمرار القصف، وطلبات إخلاء المناطق المتكررة، محاولين تفادي استهداف الجنائز.
واستهدف جيش الاحتلال جنازتين في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أحدهما في بلدة بيت حانون، والأخرى في مشروع بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، وأصيب عشرات المشيعين نتيجة القصف، ما دفع أهالي غزة إلى تأجيل مراسم التشييع، خصوصاً مع وقوع مزيد من الشهداء يومياً، وفقدان غالبية عائلات القطاع أفراداً من ذويهم وأصدقائهم في مختلف المناطق.
وفي المناطق المحاصرة من شمالي القطاع، لا تجري الجنائز عبر السير الجماعي إلى مكان الدفن كالمعتاد، بسبب خطر استهداف المشيعين عبر طائرات الاستطلاع التي تقصف أي تجمع بشري، حتى إنها تقصف تجمعات الأهالي حول شاحنات المساعدات الإنسانية.
يحمل الجد أبو نضال خليل (64 سنة) جثمان حفيده خليل (5 سنوات) الذي استشهد صباح الثلاثاء 20 فبراير/شباط الماضي، ومن خلفه ابنه عبد القادر (40 سنة) الذي يحمل جثمان طفلته نيفين (9 سنوات) التي استشهدت في اليوم ذاته في قصف إسرائيلي على مخيم النصيرات، لدفن جثماني الطفلين من دون أي مما تعارف عليه سكان قطاع غزة من مراسم للجنائز.
دفن الشهداء أكثر صعوبة في شمالي غزة مقارنة بالمناطق الجنوبية
كان الفلسطيني المسن يسير حافي القدمين من هول الصدمة، إذ لم تكن تلك الجنازة الأولى التي يقيمها منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بل هي الرابعة، وكل الجنازات جرت من دون أي مراسم، إذ شيّع سابقاً ابنته الشهيدة لمياء (38 سنة) وأبناءها الأربعة وزوجها، ثم شيع لمرتين أبناء شقيقه، وهذه المرة يشيّع المزيد من الأحفاد. كُفن الحفيدان الشهيدان في الغرفة التي تبيت فيها الأسرة منذ تضرر منزلها نتيجة القصف، ودفن جثماناهما في أرض خالية مجاورة.
يقول خليل لـ"العربي الجديد": "نحن من سكان حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، وحالياً نحن مهجّرون، وفي العدوان السابق على القطاع، كنا نستطيع الذهاب إلى المقابر في جماعات للدفن، لكن في هذا العدوان دمر الاحتلال المقابر، ودمر الشوارع المؤدية إليها، وهو يستهدف الجنازات، ما يجعلنا لا ننظم أي مراسم للدفن".
يضيف: "كأي مسن فلسطيني، أشعر بفداحة حمل أحفادي الذين لم يروا شيئاً بعد في حياتهم لدفنهم، فبدل أن يكبروا، وأن يحملوا نعشي إلى القبر لدفني بعد وفاتي، حملت أنا جثامينهم من دون مشيعين، وبحثت عن مكان مناسب ليكون قبراً لهم".
في مدينة خانيونس، دفن مصطفى أبو مسامح (24 سنة) العديد من أقاربه، من بينهم شقيقه الأكبر أحمد (30 سنة)، ويقول إنه "من بين أصعب الأزمات التي تواجه أهالي الشهداء أن الأكفان غير متوفرة، ويبحث ذوو الشهيد عن الكفن في كل مكان بلا جدوى، فالمتوفر حالياً هو ما يصل عبر المساعدات التي تدخل إلى القطاع، وهي قليلة، وقد ينتظر أهل الشهيد لفترة طويلة حتى يحصلوا على كفن، كما أنه لا توجد أماكن كافية للدفن، وفي حال وجدنا مكاناً مناسباً، فإنّ جثامين الشهداء تُحمل على اليدين لدفنها في المكان الذي اختارته عائلاتهم، ولا يمشي عدد كبير من المشيعين خلف الجثمان، بل يتولى ذوو كل شهيد دفنه وحدهم، وهذا أمر أصبح معتاداً بين جميع الأهالي".
يضيف أبو مسامح لـ"العربي الجديد": "عندما استشهد شقيقي أحمد في السادس من فبراير/ شباط الحالي، لم أجد وسيلة نقل توصلني بالجثمان إلى مكان الدفن، لأن المنطقة التي نزحنا إليها لم تكن مناسبة للدفن، وبعد تكفين جثمانه، انتظرت لساعات حتى توفرت عربة يجرها حمار، ونقلته إلى أرض في وسط مدينة خانيونس لدفنه. حُرمنا من الحزن، ومن دفن شهدائنا بطريقة لائقة، إذ نسير عادة وحدنا حاملين جثامين ذوينا إلى الدفن، بينما كان الشهيد قبل العدوان الإسرائيلي الحالي يحصل على تقدير وتكريم وطني، وتشيّعه مسيرة حاشدة تقديراً لتضحيته، لكننا الآن جميعاً مشاريع شهداء".
يتابع: "كنت أحمل جثمان شقيقي في انتظار قدوم عربة لنقله، وكانت دموعي تسيل حزناً عليه، وعلى الطريقة التي سيدفن بها، وعندما وصلت إلى مكان الدفن، وجدت رجلاً يدفن طفله الوحيد، وكان مثلي وحيداً من دون أي مشيعين، وشعرت أنه يسقي الرمال التي يدفن فيها ابنه بدموعه".
ويظل دفن الشهداء أكثر صعوبة في مناطق شمالي القطاع مما هي عليه في المناطق الجنوبية، إذ يدفن الناس شهداءهم بشكل عشوائي، بسبب الاستهداف المتكرر من المسيرات الإسرائيلية، وخصوصاً طائرات "الكواد كابتر" التي تقيد حركة من يحاولون الاقتراب من المناطق الشرقية لمدينة غزة.
ويشير عزت صيام (40 سنة) إلى أن الاحتلال حرم الأهالي من تشييع الجنائز، ومن مراسم العزاء المعتادة، والناس في غالبية الأحيان لا يعرفون من الذي استشهد، ومن الذي بقي حياً، ولا يعرفون أين دُفن أقاربهم أو جيرانهم، فالجميع محرومون من التواصل مع المحيطين في ظل الأوضاع القائمة وتشديد الحصار.
دمّر القصف الحي الذي يعيش فيه صيام في حي الزيتون بمدينة غزة، وأوقع عشرات الشهداء، ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "أعداداً كبيرة من سكان الحي دفنت شهداءها داخل المنازل، أو في الأراضي القريبة الخالية خشية استهدافهم، كما جرى مع أفراد من عائلة فلفل، في يناير/ كانون الثاني الماضي، حين كانوا متوجهين لدفن شقيق لهم في مكان قريب من منزلهم، فجرى استهدافهم، واستشهد اثنان من أشقاء الميت قبل دفن شقيقهم الشهيد".
يتابع صيام: "غالبية سكان مدينة غزة وشمالي القطاع لم يتمكنوا من تشييع شهدائهم، أو إقامة عزاء لهم، وكانت العائلات التي وجدت قبوراً لشهدائها في بداية العدوان تعتبر نفسها محظوظة، لكن بعد أن هاجم الاحتلال المقابر، وسرق الجثامين، أصبحنا نقول إن المهم هو دفن الشهيد، حتى لو كان في الشارع، ومن دون جنازة بالطبع، لأننا لا نريد لعدد جديد من الأشخاص أن يستشهدوا خلال التشييع".
ويضيف: "استشهدت شقيقتي الكبرى وأبناؤها في 25 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ودفنتهم من دون أي مراسم، حتى إنني أمسكت حجراً لكتابة الأسماء عليه، فلم أجد قلماً، فبحثت عن قطع من الفحم، واستخدمتها في الكتابة، ثم خفت من أن يزيل المطر الكتابة من على الحجر، فوضعت بعض العلامات بالقرب من المكان حتى أتعرف على مكان قبر شقيقتي".
واعتاد فلسطينيو غزة خلال العدوان الحالي على عمليات الدفن الجماعي في محاولة لتفادي استهداف من ينقلون جثامين الشهداء، إذ يُنقل كثير من الجثامين في وقت واحد بعد اختيار منطقة الدفن التي تحددها إدارة المستشفى، أو يحددها سكان المنطقة، ويجرى الدفن بشكلٍ جماعي، ويطلب من ذوي كل شهيد حضور عدد قليل للمراسم التي تقام بشكلٍ صامت.
يقول محمود شاهين لـ"العربي الجديد": "استشهد عدد من أفراد عائلتي، ودفنتهم بنفسي، ولم أتمكن من وضع ضريح على قبر والدي حتى نعرفه، ويزوره بقية أفراد العائلة لاحقاً. كان والدي معلماً لمادة الدراسات الاجتماعية، وكان معروفاً في منطقتنا بمدينة خانيونس، إذ كان يقوم على تنظيم جنائز كبيرة لتكريم الشهداء، ويسير في مقدمة كل جنازة، ويقدم خطبة لتكريم كل شهيد، يطلب فيها من الناس مسامحته لأنه وصل إلى درجة عالية عند الله. لكنه لم يحظ بنفس التكريم، إذ لم يحضر أحد جنازته، ولم نقم مراسم للدفن، ما يجعلني أشعر بغصة كبيرة".
يوضح شاهين: "لم أجد صخرة لكتابة اسم والدي عليها كضريح لقبره، فغرست شجرة قرب الأرض التي دفنته فيها، وكتبت اسمه على كفنه أكثر من مرة حتى أتمكن من تمييز جثمانه. نزحت إلى مدينة رفح في الرابع من شهر فبراير، وأتمنى أن ينتهي العدوان سريعاً حتى أتمكن من نقل جثمان والدي، وتنظيم مراسم تشييع لتكريمه كشهيد، إذ إن له فضلاً كبيراً على كثيرين من أفراد العائلة وسكان المنطقة، وسيحضر تشييعه وعزاءه الكثير من الأشخاص".