منذ ساعات الفجر، يقصد شمس الدين مرزوق البحر لصيد السمك كعادته. لكن رحلته تنتهي أحياناً بالعثور على جثث مهاجرين لقوا حتفهم بعد غرق مراكبهم في عرض البحر قبالة سواحل جرجيس جنوب تونس.
وتعد هذه المنطقة التونسية من بين أكثر المناطق التي تشهد انطلاق رحلات الهجرة السرية عبر البحر نحو أوروبا بحكم قربها من المناطق الحدودية مع ليبيا، التي تشهد تدفقاً كبيراً للمهاجرين ممن توافدوا عبر الحدود البرية للمشاركة في الهجرة إلى إيطاليا.
يقول شمس الدين إنّه وجد أول مرة، منذ أكثر من خمس سنوات، ثلاث جثث في البحر خلال إحدى رحلات صيده، فعمد إلى انتشالها وتسليمها إلى السلطات والإشراف على دفنها في مقبرة الغرباء هناك في جرجيس. ومنذ تلك الحادثة، بات يساعد المهاجرين السريين ممن يضيعون في عرض البحر، فيما يحمل جثث المهاجرين التي يجدها عائمة على سطح البحر، ويسلّمها إلى الحرس البحري أو المستشفى، حيث يجرى فحص الحمض النووي لكل جثة قبل دفنها. وساهمت أزمة المهاجرين خلال السنوات الأخيرة في دفعه إلى العمل التطوعي والانضمام إلى الهلال الأحمر التونسي في منطقة جرجيس، وخصوصاً بعد زيادة عمليات الهجرة انطلاقاً من تلك المنطقة.
ويشير شمس الدين إلى أنّه يرفض الدفن الجماعي الذي تقوم به السلطات أحياناً، بسبب رفض سكان المنطقة دفن جثث المهاجرين في مقابرهم، بالإضافة إلى عدم إيجاد أرض لدفنهم في مقبرة مخصصة لضحايا الهجرة السرية. وفي مقبرة صغيرة بعيداً عن التجمعات السكانية قرب الأراضي الزراعية، دفن شمس الدين قرابة 500 جثة مهاجر سري لقوا حتفهم في البحر. وخلال تجوّله في تلك المقبرة، يحدثنا شمس الدين عن كل قبر، ومن دفن فيه على الرغم من أن الجثة لشخص مجهول الهوية. كما يذكر تاريخ العثور على الجثة ومكانها وتوقيت وكيفية دفنها. ولا يحمل القبر سوى رقماً هو في الأصل رقم ملف الجثة وتحليل الحمض النووي الخاص بها، بينها لنساء وأطفال.
ونظراً إلى صغر مساحة الأرض التي تبرع بها أحد أبناء الجهة لدفن المهاجرين السريين، دفن شمس الدين عدداً كبيراً من الجثث، وواجه مشكلة في توفير أرض كبيرة تخصص لدفن المهاجرين، لا سيما أنّ أبناء الجهة يرفضون دفن جثث المهاجرين مع جثث ذويهم في مقابر المنطقة. ويحرص شمس الدين على القيام بكل الإجراءات القانونية قبل دفن أي جثّة، أي تبليغ السلطات وإجراء تحليل الحمض النووي لكل جثّة.
يتعمد شمس الدين وضع بعض الألعاب أو تماثيل أطفال صغار على قبر كل طفل مهاجر توفي في البحر. وخلال حديثه عن تلك القبور، يتذكر تفاصيل كل جثة عثر عليها على الرغم من مرور سنوات على دفنها. ويقول إنّه يقوم يومياً بجولات على شواطئ المنطقة علّه يجد جثثاً قد يلفظها البحر، لا سيما أنّ سواحل جرجيس تعتبر من بين أبرز السواحل التي تنطلق منها رحلات الهجرة السرية، سواء من أبناء الجهة أو من المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء. ويشير إلى أنّ غالبية الجثث التي عثر عليها كانت متحللة، وأحياناً يعثر على أجزاء من الأجساد وقد تآكلت. ولا يتوانى حتى عن جمع تلك الأجزاء ودفنها بمساعدة رفاقه من الهلال الأحمر.
يزور المقبرة كل فترة لتفقد المقابر التي لم تبنَ، ويكتفي بدفن كل جثة في قبر صغير حتى يتسنى له دفن جثث أخرى في نفس القبور بعد مدّة، بسبب صغر مساحة المقبرة وعدم توفر أراض أخرى لدفن جثث المهاجرين. ويُندد شمس الدين بتعمد السلطات أحياناً دفن جثث المهاجرين من دون القيام بتحليل الحمض النووي أو دفنها في مقابر جماعية. ويقول إنّه "على الرغم من كونها جثثاً لمهاجرين مجهولي الهوية، إلاّ أنّها تبقى جثثاً لأشخاص. ومن الناحية الإنسانية، يجب التعامل معها باحترام، ويكفي أنّها جثث لأشخاص غامروا من أجل حياة أفضل لتنتهي رحلاتهم بمأساة، فعلى الأقل يجب أن تلقى أجسادهم معاملة إنسانية. وعلى الرغم من رفض سكان الجهة دفن جثث أولئك المهاجرين في مقابرهم، فقد عملنا على ضرورة تخصيص مقابر خاصة بهم بعيداً عن المناطق السكنية، ودفنهم بطريقة تحترم الذات البشرية".
يرفض شمس الدين سياسة الترحيل التي باتت تتبعها السلطات خلال الفترة الأخيرة، وهو يؤوي في منزله عدّة مهاجرين ممن لا عمل لهم أو مأوى، إذ إن عدداً كبيراً منهم لا يستطيع تأمين بدل إيجار بيت للسكن فيه مدة وجيزة قبل محاولة هجرة سرية جديدة. ويؤكد أنّ الأمر تسبب له في مشاكل عدة مع السلطات، لكنه لا يستطيع عدم مساعدة كل من يحتاج المساعدة، وخصوصاً أنهم غرباء عن المنطقة ومعرضون للترحيل أو الإيقاف أو الاعتداء.