شمال قطاع غزة تحت النار للأسبوع الثالث

20 أكتوبر 2024
فلسطينيون ينزحون من جديد في بيت لاهيا، شمال غزة، 19 أكتوبر 2024 (محمود عيسى/ فرانس برس)
+ الخط -

للأسبوع الثالث، يعيش الفلسطينيون في شمال قطاع غزة المعزول عن الجنوب والوسط ما سبق أن اختبروه في الأيام الأولى من الاجتياح البري الإسرائيلي على شمال القطاع في أكتوبر/تشرين الأول 2023، في إطار الحرب المتواصلة التي يشنّها الاحتلال على القطاع. ومن جديد، راح القصف الجوي كما المدفعي يطارد سكان شمال قطاع غزة، الذين اضطروا إلى النزوح من منزل إلى آخر تحت وطأة الضغط والتهديد.

ومنذ الأول من أكتوبر الجاري، يقطع الاحتلال الإسرائيلي المساعدات الغذائية بالكامل عمّن تبقّى من السكان في شمال قطاع غزة، الذي يضم محافظة غزة ومحافظة شمال غزة، على الرغم من المزاعم الصادرة عن السلطات الإسرائيلية السياسية والعسكرية التي تدّعي إدخال الإمدادات اللازمة إلى المنطقة. في الواقع، يحجب الاحتلال كلياً المساعدات عن الفلسطينيين في شمال قطاع غزة المعزول، ولا سيّما عن سكان مخيم جباليا وبلدات جباليا البلد وبيت لاهيا وبيت حانون والمناطق الغربية من محافظة شمال غزة، فيما يسمح بإدخالها إلى مدينة غزة بكميات محدودة لا تلبي احتياجات سكانها.

يُذكر أنّ الاحتلال الإسرائيلي أعلن، في السادس من أكتوبر الجاري، أنه لن يسمح لحركة حماس بإعادة تنظيم صفوفها في الشمال، وشنّ هجوماً جوياً وبرياً واسع النطاق وشدّد حصاره على المنطقة التي دمّرتها الحرب الإسرائيلية ودفعت عشرات الآلاف إلى النزوح. وفي هذا الإطار، قطع الاتصالات عن مناطق شمال القطاع، الأمر الذي أدّى إلى انقطاع تواصل الأهالي في ما بينهم، في حين أُطلقت مناشدات لإجلاء المحاصرين من قبل قوات الاحتلال.

وتقدّمت آليات الاحتلال الإسرائيلي في محاور عدّة بمخيم جباليا ومدينة بيت لاهيا ومشروع بيت لاهيا وسط حصار تام لهذه المناطق، علماً أنّ من ضمنها تقع مستشفيات كمال عدوان والإندونيسي والعودة. وقد أتى ذلك إما بالحصار البري عبر الآليات العسكرية، وإما بالحصار الناري عبر القصف الجوي والمدفعي والمسيّرات، الأمر الذي تسبّب في استشهاد وإصابة عشرات من الفلسطينيين.

الصورة
فلسطينيون نازحون في مدينة غزة - شمال قطاع غزة - 12 أكتوبر 2024 (محمود عيسى/ فرانس برس)
نزوح بكلّ الوسائل المتاحة في مدينة غزة، شمال قطاع غزة، 12 أكتوبر 2024 (محمود عيسى/ فرانس برس)

وتواجه المستشفيات صعوبة كبيرة نتيجة للقصف الإسرائيلي الذي يطاولها بين فترة وأخرى، والذي ألحق أضراراً جسيمة، كان أبرزها تدمير المولد الكهربائي الخاص بالمستشفى الإندونيسي، عدا عن منع إدخال الوقود اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية عموماً ومركبات الإسعاف والدفاع المدني.

ويتنقّل السكان بين ناحية وأخرى، محاولين بذلك البقاء في شمال قطاع غزة الذي سبق أن أمرهم الاحتلال بإخلائه والخروج إلى مناطق في اتجاه الجنوب زعم أنّها "آمنة". لكنّه عاد ليفرض حصاراً مشدّداً وليمنعهم من التنقّل، وراح يستهدف كلّ من يتحرّك، الأمر الذي يكذّب الرواية الإسرائيلية بشأن "الإخلاء الآمن".

وسُجّل في الأيام الماضية خروج صحافيين ووسائل إعلامية من شمال قطاع غزة، على خلفية الخطر الكبير الذي يتهدّد حياتهم والاستهداف الإسرائيلي المتكرّر لهم، علماً أنّ ذلك أدّى إلى استشهاد وإصابة تسعة منهم، في خلال العملية العسكرية البرية الثالثة التي تستهدف مخيم جباليا والتي تتواصل للأسبوع الثالث على التوالي.

وقد استخدم الاحتلال الإسرائيلي أسلوب "الكمّاشة" أو ما يُعرف بأسلوب "طنجرة الضغط" في مساعيه إلى السيطرة على مختلف مناطق الشمال التي تلجأ إلى الضغط العسكري الشديد، مع تقدّم الآليات والقوات البرية على الأرض، وتحديداً في ساعات الليل لتفادي الاشتباكات مع المقاومة الفلسطينية في تلك المناطق.

ويعاني نحو 200 ألف فلسطيني في محافظة شمال القطاع من الجوع، بسبب ما تنتهجه قوات الاحتلال منذ أكثر من عام، وسط رفضهم إخلاء منطقتهم والتوجّه نحو مناطق في جنوب القطاع ووسطه. تُضاف إلى ذلك معاناة الفلسطينيين الصحية من جرّاء انهيار المنظومة الصحية وغياب الرعاية الكاملة بفعل حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023.

ومع تصاعد وتيرة العمليات العسكرية وإعلان الاحتلال توسيع عمليته البرية في شمال قطاع غزة المعزول، تُقدّر أعداد الشهداء بنحو 600 شهيد إلى جانب مئات الإصابات، من دون أن تتوفّر أيّ إحصاءات رسمية دقيقة، لأنّ عشرات الشهداء ما زالوا تحت الأنقاض أو في الشوارع، إذ لم تتمكّن الطواقم الصحية ولا فرق الدفاع المدني من انتشال جثثهم بفعل القصف الإسرائيلي العنيف.

يُذكر أنّ منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بالإنابة جويس مسويا كانت قد أفادت، أوّل من أمس السبت، بأنّ الفلسطينيين يعانون "أهوالاً تفوق الوصف" في شمال قطاع غزة المحاصر، وأنّ "أخباراً مروّعة" تأتي من هناك. أضافت أنّ "عشرات آلاف الفلسطينيين هُجّروا قسراً"، فيما "بدأت الإمدادات الأساسية تنفد. وقد ضُربت المستشفيات المكتظة بالمرضى". وشدّدت المسؤولة الأممية على ضرورة "توقّف هذه الفظائع".

ويرفض الفلسطينيون في شمال قطاع غزة النزوح نحو مناطق الجنوب أو الوسط، إذ اتّضح زيف الادّعاء الإسرائيلي بأنّها "مناطق آمنة". وبحسب مشاهدات "العربي الجديد"، فإنّ عدداً كبيراً من النازحين الذين حاصرهم الاحتلال في مراكز الإيواء خلال الأيام الماضية وأمرهم بالتوجّه صوب جنوب القطاع رفضوا ذلك، وسلكوا مسارات أخرى نحو المناطق الغربية أو الشرقية لمدينة غزة أو وسطها، في رفض للنزوح الكلي الذي يسعى الاحتلال إلى فرضه على السكان في شمال قطاع غزة أخيراً، مع العلم أنّه كان قد بدأ يصدر أوامر إخلاء منذ الأيام الأولى من حربه في أكتوبر 2023.

الصورة
جرحى فلسطينيون من مخيم جباليا في المستشفى المعمداني بمدينة غزة - شمال قطاع غزة - 13 أكتوبر 2024 (داود أبو الكاس/ الأناضول)
يُنقَل جرحى من مخيم جباليا إلى المستشفى المعمداني بمدينة غزة، شمال قطاع غزة، 13 أكتوبر 2024 (داود أبو الكاس/ الأناضول)

وقبل عمليات النزوح القسرية، تنكّل القوات الإسرائيلية بشدّة، فتعمد إلى فصل النساء والأطفال عن الرجال، فيما تُنفّذ عمليات اعتقال بحقّ أعداد من الرجال، وسط تهديدات بعمليات إعدام ميدانية شبيهة بما سبق أن نفّذتها في العمليّتَين العسكريّتَين السابقتَين في مناطق مخيم جباليا خصوصاً وفي شمال قطاع غزة عموماً. وتجبر قوات الاحتلال أهالي الشمال على النزوح بقوة السلاح وبالتهديد بالقتل، ولا سيّما أنّهم كانوا بمعظمهم يرفضون الخروج من مناطقهم. لكنّ التقدّم البري والضغط العسكري أجبراهم على النزوح، وإن جزئياً، أي إلى مناطق غربي مدينة غزة، على أمل العودة إلى مناطقهم في حال انتهت العملية العسكرية قريباً.

إلى جانب ذلك، يخضع فلسطينيون كثيرون اعتقلتهم قوات الاحتلال إلى تحقيقات ميدانية، قبل الإفراج عنهم وإجبارهم على النزوح من أماكن وجودهم، في مشهد يعيد إلى الأذهان ما جرى في الفترة السابقة من الحرب، وذلك بالتزامن مع استمرار عمليات النسف التي تنفّذها تلك القوات، مستهدفةً فيها منازل الفلسطينيين في المناطق الغربية لمخيم جباليا.

وبينما يمضي الاحتلال في نفي أن يكون ما يحصل في شمال قطاع غزة تنفيذاً لـ"خطة الجنرالات"، فإنّ المشهد الميداني يؤكد الأمر. ومنع إدخال المساعدات وقطع الاتصالات واستهداف المستشفيات تعكس رغبة الاحتلال في تهجير نحو 400 ألف فلسطيني ما زالوا في محافظة غزة ومحافظة شمال غزة، وذلك في اتجاه وسط القطاع وجنوبه، ليصير شمال القطاع بقعة جغرافية عسكرية خالصة.

ويتملّك الخوف فلسطينيين كثيرين في شمال قطاع غزة المعزول الذي يتعرّض مرّة ثالثة إلى عملية عسكرية وحشية. محمد السيد، من سكان مخيم جباليا للاجئين، واحد من هؤلاء، يضطر إلى النزوح مع عائلته من منزل إلى آخر بصورة يومية. يقول السيد لـ"العربي الجديد" إن "المشكلة الكبرى بالنسبة إلينا تتمثّل في معاناة الأطفال والنساء، وأجواء الهلع المنتشرة بفعل عمليات القصف الإسرائيلي التي لا تتوقّف، إلى جانب الجوع والعطش وعدم توفّر أي مساعدات في شمال قطاع غزة منذ بداية شهر أكتوبر الجاري". ويؤكد أن "الرعب مسيطر علينا، ونحن نتنقّل بصعوبة وبقلق. لا تتوفّر منطقة آمنة هنا، في حين أن كلّ من يتحرّك مستهدف بالقصف وكذلك بإطلاق النار المباشر من طائرات الكواد كابتر (المروحية)، بالإضافة إلى الحصار الشديد المفروض علينا من قبل الاحتلال". ويتابع السيد: "اعتدنا النزوح منذ عام كامل، ولا بديل عن ذلك ولا مكان أمناً"، مشيراً إلى أنّ "في كلّ مرّة نشعر باقتراب الموت بسبب القصف الإسرائيلي وصعوبة الحركة وعدم توفّر مقوّمات الحياة".

وكان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قد طلب التعامل مع ما يجري في شمال قطاع غزة بوصف المنطقة "منكوبة"، من خلال "ما يقتضيه ذلك من تدخلات عاجلة، أوّلها إلزام إسرائيل بوقف هجومها ضدّ المدنيين، وتوجيه مساعدات طارئة منقذة للحياة بشكل عاجل، ووقف حملة الإبادة الجماعية العنيفة التي ترتكبها ضدّهم".

بدوره، اضطرّ الفلسطيني أحمد رفيق إلى النزوح مع عائلته من مخيم جباليا نحو مدينة غزة، وقد وصل بعد ساعات بسبب الحصار المفروض، بالإضافة إلى تعرّضه للاعتقال في أكثر من مرّة، مع أعداد من الفلسطينيين، في محيط أحد مراكز الإيواء بالمخيم الذي كان يعيش فيه مع عائلته لمدّة شهور، بعد أن دمّر الاحتلال منزلهم في غرب محافظة شمال غزة. ويتحدّث رفيق لـ"العربي الجديد" عن "الواقع السيئ والصعب وعمليات الإذلال والتفتيش والتحقيق التي تفرضها قوات الاحتلال وسط الحصار، بالإضافة إلى تفريق أفراد العائلات"، الرجال من جهة والنساء والأطفال من أخرى. ويلفت رفيق إلى أنّ "الحصار الذي يخضع له الفلسطينيون في مخيم جباليا صعب جداً، إذ لا تتوفّر أيّ مواد غذائية باستثناء كميات محدودة من الخبز، ونستعيد بذلك الأيام الأولى من الحرب حين راح الناس يتناولون الأعشاب وأعلاف الحيوانات". يضيف رفيق أنّ "ساعات الليل كانت من أصعب ما عشناه في الأيام الماضية، إذ لم نكن نعرف طعم النوم، في حين تطلق قوات الاحتلال القذائف المدفعية وتنسف مربّعات سكنية، ويشعر الواحد منّا أنّ القذيفة المقبلة سوف تكون مصوّبة نحوه، وسوف يكون هو الضحية التالية".

المساهمون