يعيش سكان مناطق كثيرة في السودان في عطش دائم، حتى أولئك الذين في المدن الكبيرة، في حين تحاول السلطات منذ سنوات الخروج من عنق الأزمة عبر تنفيذ مشاريع مختلفة من أجل "إطفاء الظمأ".
في مدينة بورتسودان (شرق) التي تضم الميناء الرئيسي للبلاد على ساحل البحر الأحمر، ويقطنها حوالى 750 ألف شخص، تدفع الأسرة الواحدة بين 1500 و2000 جنيه (بين 3,37 و4,50 دولارات) يومياً لشراء برميل واحد من محطات تحلية المياه التي لا يتجاوز عددها أربعة. أما سعر قارورة مياه التعبئة بسعة 18 ليتراً التي تنتجها مصانع فيبلغ 300 جنيه (0,66 دولار).
واعتمدت المدينة سابقاً، في شكل أساسي، على تخزين مياه الأمطار في سدود تكفي لتأمين نسبة 80 في المائة من الاحتياجات السنوية. لكن وضع هذه السدود الفني تدهور في السنوات الأخيرة، بالتزامن مع مواجهة المدينة شحّاً في الأمطار لمواسم عدة، ما قلّص مخزونها وحتّم حفر السلطات 35 بئراً جديدة تعرضت بدورها لإهمال عطّل غالبيتها وفاقم أزمة مياه الشرب في المدينة، التي لا توفر حالياً إلا نسبة 30 في المائة من احتياجات السكان.
حلول نظرية
يقول أحد سكان المدينة، إيهاب محمد نصر، لـ "العربي الجديد": "يهاجر سكان كُثر بسبب عدم توفر مياه صالحة للشرب، خصوصاً في فصل الصيف. كما يتسبب ذلك في انتشار أمراض مثل الحصى والإسهال والجفاف وسوء الهضم، ويدفع السكان إلى حفر آبار بأنفسهم من دون التقيّد بالشروط المطلوبة، ما يعرّض صحتهم إلى خطر بتأثير الملوحة العالية للمياه، واختلاط بعض الآبار بمياه الصرف الصحي".
ويحمّل نصر الحكومات المتعاقبة مسؤولية الواقع السائد، ويتهمها بأنها "لا تمنح المواطنين أولوية، وتقترح حلولاً نظرية، وتعدّ دراسات تكرر النتائج ذاتها، ولا تحقق مع تعاقب السنوات أي شيء ملموس على أرض الواقع، في حين يعرف الجميع أن إيصال المياه إلى المدينة من نهر النيل، بحسب المخطط الموضوع، أمر صعب بسبب كلفته العالية التي تتجاوز 770 مليون دولار، ما يجعل الحل الوحيد يتمثل في تحلية المياه التي تعتمدها غالبية دول العالم. وهنا يجب إنشاء محطات جديدة عالية الإنتاج في البحر الأحمر، علماً أن المشكلة لا تنحصر في بورتسودان وحدها، بل تشمل كل مدن وأرياف ولاية البحر الأحمر التي يسكنها 1.4 مليون شخص.
مياه "محمولة"
من جهتها، واجهت مدينة الأبيض، كبرى مدن غرب السودان، حتى وقت قريب، أزمات عطش متلاحقة، خصوصاً بعد زيادة نسبة سكانها إثر نزوح متضررين من النزاعات والحروب في دارفور وجنوب كردفان إلى أراضيها. يشير أحد سكانها، الرشيد يوسف، في حديثه لـ "العربي الجديد" إلى أن "تحسناً طرأ على خدمة توصيل المياه في المدينة، لكن عدداً كبيراً من أحيائها لا يزال يعاني من عطش، مثل القبة والثورات والجهاد وغيرها، بينما تحمل النساء والأطفال المياه لجلبها إلى المنازل في أرياف ولاية شمال كردفان". يضيف: "يسبب انقطاع الكهرباء المستمر في أزمة المياه الحالية، في حين أن الحلّ الجذري يتطلب توصيل مصادر الشبكة القومية بالكهرباء، والاهتمام بإعادة تأهيل الآبار التي تغذي المدينة بالمياه، ولا تعمل إلا 13 من إجمالي 31 منها أحيانا".
طوابير في الخرطوم
لا تبدو الحال أفضل في العاصمة الخرطوم، إذ يشهد عدد كبير من أحيائها خصوصاً في جنوبها وغرب أم درمان، شحّاً في مياه الشرب بسبب تعطل المحطات وقطع الكهرباء. ويوضح أحد سكان منطقة الكلاكلة، نزار أحمد، لـ "العربي الجديد" أن "المواطنين يضطرون إلى الوقوف في صفوف طويلة أمام إحدى محطات تكرير المياه للحصول على كمية ضئيلة جداً من احتياجاتهم، أو السهر ساعات طويلة من أجل تخزين ما يكفيهم، في حال وصلت المياه إلى منازلهم. والغالبية تضطر إلى شراء براميل مياه، علماً أن ما يحدث في حي الكلاكلة يتكرر في حي جبرة جنوب الخرطوم، وأحياء أخرى"، في حين تؤكد هيئة مياه الخرطوم أنها تعمل لسدّ الفجوة في مياه الشرب التي قد تصل إلى 1.5 مليون متر مكعب يومياً، وصرح مسؤولوها أن "عدم توفر المال يُعيق إنشاء محطات جديدة، وصيانة تلك القديمة كي تزيد إنتاجها".
وللخروج من عنق الأزمة، حاولت الحكومة السابقة تنفيذ مشاريع عدة أهمها مشروع "زيرو عطش" خلال الفترة بين عامي 2016 و2020. ثم شرعت الحكومة الحالية في تنفيذ مشروع مولّته السعودية لحفر 500 بئر تتوزع على كل الولايات، مع التركيز على تلك التي تشهد نزاعات وحروب وموجات نزوح، ونسبة عالية من السكان. وأيضاً، تنشد الوزارة الإفادة من منحة أخرى من البنك الدولي قيمتها 575 مليون دولار، منها 200 مليون دولار مخصصة لتنفيذ مشاريع لمياه الشرب، من أجل سدّ الفجوة.
ويوضح عمار محجوب، مدير إدارة حصاد المياه بوزارة الري والموارد المائية، أن مشروع "زيرو عطش" حقق بعض الأهداف والإنجازات، مؤكداً أن "إدارة حصاد المياه تعمل لتوفير مصدر مياه صالحة للشرب لكل إنسان على مسافة لا تبعد أكثر من كيلومترين. وتركنا موضوع تحديد الاحتياجات للولايات نفسها، علماً أننا حريصون على استدامة مشاريع المياه، لأن التجربة أثبتت أن المشاريع قد تنهار في حال عدم وجود مراقبة ومتابعة، لذا ستخضع هذه المشاريع لإدارة مشتركة بين الحكومة والأهالي معاً". يضيف: "مشاريع المياه ذات أثر اجتماعي كبير على صعيد تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وزيادة الإنتاج الزراعي والحيواني، ووقف النزاعات، علماً أن نزاعات قبلية كثيرة في البلاد سببها مصادر المياه".