سودانيون في قطر يترقبون فرصة لإنقاذ عائلاتهم

26 ابريل 2023
موجات نزوح واسعة من الخرطوم (فرانس برس)
+ الخط -

صباح الخميس الماضي، وبينما كانت نيران القنابل تحرق السوق المركزي في مدينة الخرطوم بحري، نتيجة الاشتباكات الضارية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، كان قلب الشاب السوداني المقيم في الدوحة وضاح جعالين يحترق خوفاً على عائلته التي تقطن بمنزل من ثلاث طبقات في حي "سعد قشرة" الملاصق للسوق المركزي.
يعمل وضاح (34 سنة)، محاسباً، وقد تزوج من علياء (27 سنة)، قبل ستة أشهر، ووصل إلى الدوحة قبل شهرين فقط، وكان يستعد لاستقدام عروسه. رغم توتره الشديد، لكنه تمكن من إجراء عدة اتصالات مع معارف وأصدقاء في الخرطوم، وجهز معهم خطة تتيح نزوح عائلته من وسط حقل النيران. يقول: "عائلتي كبيرة العدد، وأفرادها يقتربون من الثلاثين، من بينهم عروسي، وجدي وجدتي، وأمي وأبي، وإخوتي الخمسة، وثلاثة أعمام وزوجاتهم وأطفالهم، وجميعهم محاصرون في المنزل ينتظرون انتهاء ترتيبات المغادرة".
يضيف: "هكذا هي الحرب، في لحظة واحدة يتحول مسار حياتك، فبدلاً من التركيز على وظيفتي لضمان بناء أسرة هادئة، أركز على إيجاد طريقة لإخراج عائلتي من دائرة الموت. لا توجد شبكة إنترنت، وخطوط المياه معطوبة، ودرجة الحرارة مرتفعة، والكهرباء مقطوعة، والأطفال يبكون مع كل انفجار. في كل اتصال أستشعر توتراً بين النساء، بينما جدي وأبي وأعمامي صامتون، فيما تبكي علياء. هذا المشهد يتكرر في كلّ اتصال".
عند الساعة الثانية من ظهر الخميس، نجح وضاح أخيراً من خلال اتصالاته المستمرة برفاقه، في توفير سيارتين نصف نقل. استقل أفراد العائلة السيارتين تاركين كل شيء خلفهم، ذكرياتهم وأمتعتهم، اصطحبوا فقط أوراقهم الثبوتية بعدما أصرت أمه على أهمية أخذها.
تقول علياء لـ"العربي الجديد"، خلال اتصال هاتفي: "حين صعدنا إلى السيارة رجعت لنا الحياة مرة أخرى. بقينا طوال الطريق الطويل صامتين يحاول كل منا تخيل الوضع لو بقينا في المنزل الذي تحول إلى بيت أشباح بفعل الانفجارات والحريق الذي كان يحاصرنا".

تزايدت موجات النزوح الجماعي من مدن العاصمة السودانية الثلاث

قطعت السيارة 120 كيلومتراً خلال ثلاث ساعات، ليصل أفراد العائلة إلى مدينة شندي، حيث أقارب لهم هناك. تكمل علياء: "تضم شقتي التي تركتها كل شيء، لكني نجوت بنفسي. زوجي مهاجر، وأنا الآن نازحة، إنها حرب فعلاً". لم تتمكن من مواصلة الحديث وانخرطت في البكاء. ويقول وضاح: "سعيد لنجاة عائلتي، وهم الآن في أمان مؤقت، لكني حزين على ما يمر به بلدي، وأتمنى أن لا يتواصل النزاع ويصل بنا إلى حرب أهلية ممتدة، إنها المرة الأولى التي يشهد فيها السودان حرب مدن، وأخشى على مصير كل سوداني يعيش في هذا الأتون من دون استثناء".
وزادت موجات النزوح الجماعي من مدن العاصمة السودانية الثلاث، وهي الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وخصوصاً من الأحياء القريبة من المقار السيادية والحيوية، مثل القصر الجمهوري ومقر قيادة القوات المسلحة، والتي تعد مسرحاً للمواجهات الأعنف بين الطرفيْن المتقاتليْن، في حين ارتفع العدد المقدر للقتلى في صفوف المدنيين السودانيين إلى قرابة 500، وكثير منهم من النساء والأطفال، ووصل عدد الجرحى إلى قرابة أربعة آلاف.

الصورة
الهروب من الخرطوم ليس متاحاً للجميع (فرانس برس)
الهروب من الخرطوم ليس متاحاً للجميع (فرانس برس)

وباتت مغادرة الخرطوم هاجساً يؤرق سكانها البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة، في ظل نقص المواد التموينية، وانقطاع التيار الكهربائي، وندرة مياه الشرب. لكن المغادرة ليست سهلة، خصوصا في ظل الحاجة إلى كميات كبيرة من الوقود لقطع المسافة نحو الحدود المصرية شمالاً (زهاء ألف كيلومتر)، أو بلوغ بورتسودان شرقاً (850 كيلومتراً)، في حين بات الوقود عملة نادرة ومكلفة في العاصمة التي كانت تعاني أصلاً من تضخم كبير يطاول معظم المواد الأساسية.
يعمل المغترب السوداني سامي محمد صالح (53 سنة)، رجل أمن في وزارة التعليم والتعليم العالي القطرية منذ عام 2006، وهو يعيش في الدوحة من دون عائلته، بينما عائلته المكونة من زوجته ريم (42 سنة)، وأطفاله الثلاثة التوأم عبد الله وبسمة (12 سنة)، وبراء (خمس سنوات)، تعيش في منزل بحي "الصبابة" الذي يبعد عن السوق المركزي المحترق قرابة 1700 متر.
يقول سامي: "أطفالي وزوجتي في حالة رعب حقيقية، والتيار الكهربائي مقطوع، ولحسن الحظ أن زوجتي وفرت بعض الطعام. أهاتفهم على رأس كل ساعة، وفي كل مرة يبكون، وأنتظر التوصل إلى هدنة مؤقتة كي أتمكن من العودة إلى مدينة الخرطوم بحري، وأنقل عائلتي إلى مكان هادئ. صحيح أن القذائف بعيدة نوعاً ما عنهم، لكنها حرب، ومن الممكن أن يتوسع مداها في أي لحظة، وعندها تصبح فكرة أنهم في مأمن من القذائف والرصاص غير قائمة".

فقد الرجل تركيزه في العمل، فهو يقضي الليل في متابعة قنوات الأخبار التي تنقل الأحداث السودانية، وفي النهار يكرر الاتصال الهاتفي مع زوجته وأطفاله. يضيف: "في بداية رمضان، ضربت وعوداً لأطفالي بأنني سأحضر لهم الهدايا والألعاب عند عودتي، وأننا سنقضي أياماً جميلة في العيد، لكنه كان أسوأ عيد مر على البلاد، إذ كان أطفالي تحت النيران، وأنا الآن أعاني من أزمة نفسية حقيقية، فرغم أنني في أمان هنا، لكن الحرب التي بداخلي تقتلني في كل لحظة مائة مرة. كل ما أتمناه هو الوصول إلى عائلتي، والفرار بهم إلى مكان آمن قبل فوات الأوان. أصبحت أعيش في حالة من الهوس، وحين أسمع رنين الهاتف أفزع، إذ أخشى أن يهاتفني أحدهم ليخبرني بأن عائلتي قد تضررت. الوضع القائم أكبر من صراع عسكري، وأقل من حرب أهلية، وفي حال استمر هذا المشهد، قد يدخل السودان في حرب أهلية شاملة".
المهندس السوداني قريب الله القرشي (30 سنة)، موجود في الدوحة منذ نهائيات كأس العالم التي أقيمت بالعاصمة القطرية في نهاية العام الماضي، وهو يبدو أقل صموداً، حتى أن توتره الشديد انعكس على حالته الصحية، وخاصة على معدته. في آخر فحص طبي، تبين أنه يعاني من أعراض "قولون عصبي" نتيجة التوتر الشديد، إلى جانب تكرار امتناعه عن الطعام والشراب.
هو أصغر إخوته الستة، ومعروف بأنه شاب مرهف الإحساس، وانطوائي رغم التفاف أصدقائه حوله، وهو يرى أن إصابته بالقولون العصبي خلال أيام قليلة وراءها عدة ظروف مركبة، بدأت بكونه ما زال غير متأقلم مع الغربة، وتفاقمت بما يشهده السودان حالياً من أحداث.
درس الشاب السوداني الهندسة الميكانيكية، وهو معروف بين أقرانه باحتراف إعداد الطعام، وكذلك إبداعه في كتابة النصوص الشعرية. لكن توتره الشديد، ومتابعته الحثيثة، جعلا حياته تتغير كلياً. يقول القرشي: "لحسن الحظ هربت عائلتي في آخر لحظة من حي الصحافة الواقع في الخرطوم، وانتقلت إلى منزل جدتي الواقع في شرق النيل، لكن ما زال أصدقائي عالقين في أماكنهم؛ وخلال اتصال هاتفي معهم، أخبروني بأنهم بالكاد يجدون الماء ليشربوه".
يكمل: "لأول مرة أرى قصفاً وصواريخ ومشاهد مثل هذه، في كل مرة أهاتف أصدقائي يزداد توتري، وأدخل في حالة بكاء، ومنذ بداية حرب المدن لا أكل جيداً، ولا أتذكر أنني أشرب الماء، أشعر أنني في كابوس ممتد. أنا لست في غربة، بل إنني في غربتين".

المساهمون