شهدت التعبئة الجزئية في روسيا وقائع عجيبة أغضبت كثيرين، وصلت حد استدعاء عسكري متقاعد مصاب بالسكري عمره 63 سنة، ويدعى ألكسندر يرمولوف، لكن جرت إعادته إلى منزله في مدينة فولغوغراد (جنوب) في نهاية المطاف.
قد تبدو قصة يرمولوف هزلية، لكنها ليست الوحيدة، فمنذ إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 21 سبتمبر/أيلول الماضي، بدء التعبئة الجزئية لزيادة أعداد القوات الروسية في أوكرانيا، تتداول وسائل الإعلام المحلية، ومواقع التواصل الاجتماعي سيلاً من الشكاوى حول انتهاكات تتخلل عملية فرض التعبئة، تتصدرها حالات استدعاء لأفراد من خارج الفئات المراد تعبئتها.
وخرجت تظاهرات عفوية مناهضة للتعبئة في عدد من المدن والأقاليم الروسية، بما فيها جمهورية داغستان ذات الغالبية المسلمة في شمال القوقاز.
تؤكد مفوضة حقوق الإنسان في مقاطعة سفيردلوفسك الواقعة في منطقة الأورال الفاصلة بين أوروبا وآسيا، تاتيانا ميرزلياكوفا، أن "جميع حالات الانتهاك يجري التعامل معها بجدية"، مرجعة كثرة الشكاوى إلى عدم تحديث قواعد بيانات أفراد الاحتياط منذ سنوات.
وتقول ميرزلياكوفا، وهي أيضاً عضو مجلس حقوق الإنسان التابع للرئاسة الروسية، في تصريح لـ"العربي الجديد": "تكمن المشكلة في أن أفراد الاحتياط لم يحضروا منذ سنوات إلى لجان التجنيد لتحديث بياناتهم فيما يتعلق بظروف إعفائهم من التعبئة، مثل الإصابة بأمراض، أو إعاقة، أو إنجابهم الطفل الرابع، أو حمل زوجاتهم. عند استدعائهم يحضرون إلى لجان التجنيد من دون وثائق تثبت تغيير أوضاعهم، فتجري تعبئتهم، ونضطر نحن الحقوقيين للعمل على إعادتهم من مراكز التعبئة. في دائرة الأورال الفيدرالية التي أعمل بها، جرى تدارك جميع الانتهاكات تقريباً".
بدورها، تؤكد العضو بمجلس حقوق الإنسان، التابع للرئاسة، إيفا ميركاتشيفا، لـ"العربي الجديد"، أن "أغلب المخالفات التي رصدها المجلس تتعلق باستدعاء من لا تتوفر فيهم شروط التعبئة"، موضحة أنه "جرى إعادة هؤلاء إلى منازلهم قبل إرسالهم إلى مناطق القتال".
ويشير عضو الغرفة الاجتماعية للعاصمة موسكو، المحامي دميتري كراسنوف، إلى أن الوضع غير المسبوق الذي تعيشه روسيا حالياً أحدث خللاً في منظومة إدارة الدولة، داعياً إلى عدم الاستجابة للذعر. ويقول في حديث مع "العربي الجديد": "تحدث تجاوزات في جميع الدول بسبب وقوع خلل في الجهاز الإداري، ويجري تدارك الأخطاء. ما يحدث حالياً يشكل حالة توتر لأناس عاشوا منذ سنوات طويلة في هدوء. هذا بالطبع اختبار لمنظومة إدارة الدولة التي تشهد نوعاً من الخلل".
ويضيف كراسنوف: "أعتقد أنه ليس هناك داع للذعر، بل يجب التركيز. نحن في وضع صعب للغاية، ومقلق إلى حد كبير، ويجب طمأنة الناس حتى يثقوا في ما سيأتي به الغد، ويواصلون الالتفاف حول القيادة حتى تحقيق النصر. هذا هو الأهم".
لكن تأكيدات تدارك الأخطاء أثناء عملية التعبئة الجزئية لم تطمئن كثيراً من المواطنين العاديين، إذ شهدت عشرات المدن الروسية احتجاجات مناهضة لإرسال نحو 300 ألف من أفراد الاحتياط إلى جبهات القتال.
ومن اللافت أن التظاهرات لم تقتصر هذه المرة على المدن الكبرى ذات النسب الأعلى من أصحاب التوجهات الليبرالية المعارضة، بل سجلت أيضاً في مدينتي "محج قلعة" و"خسافيورت" في جمهورية داغستان، في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، حتى إن عشرات من أهالي بلدة إنديري خرجوا احتجاجاً على تعبئة شخصين فقط من سكانها، وجرى تنظيم لقاء بين السكان وممثلي السلطة، والذين أجابوا عن أسئلة المحتجين، والذين انصرفوا بعدها إلى بيوتهم، وفق رواية الإدارة المحلية.
ويتوقع الخبير في شؤون أوروبا الشرقية والوسطى، إيفان بريوبراجينسكي، أن تزداد وتيرة الاحتجاجات المناهضة للتعبئة الجزئية في الأقاليم التي تقطنها القوميات، مثل جمهوريتي داغستان والشيشان، مرجحاً أن تتوصل سلطاتها المحلية إلى اتفاقات غير رسمية مع السلطات في موسكو لخفض عدد الأفراد المطلوب تعبئتهم.
ويقول بريوبراجينسكي الحاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، لـ"العربي الجديد"، من العاصمة التشيكية براغ: "على الأرجح، ستزداد وتيرة الاحتجاجات في المناطق التي تعرف دعماً غير رسمي من السلطات المحلية، وتحديداً في الأقاليم القومية مثل جمهوريات ساخا (ياقوتيا) والشيشان وداغستان، وربما تضاف إليها أقاليم أخرى، وستجري مفاوضات مع السلطة المركزية للتوصل إلى اتفاقات غير رسمية لتخفيض ضغوط التعبئة".
من جهتها، تقدمت مستشارة مفتي داغستان، أينا حمزاتوفا، بطلب إلى الرئيس فلاديمير بوتين لتأجيل التعبئة في الجمهورية، وكتبت على قناة المفتية الداغستانية على "تيليغرام": "أنا وشعبي نود أن نقترح عليكم، نظراً لوجود أكثر من 3 آلاف داغستاني من أصل 3 ملايين من سكان الجمهورية على الجبهة الأمامية، ومن بينهم عدد لا بأس به من الأبطال، منحنا تأجيلاً من التعبئة وغيرها من الاستدعاءات".
وأوضحت حمزاتوفا أن الجمهورية ستتمكن من إعداد الداغستانيين بصورة احترافية في مراكز التدريب خلال ستة أشهر، مضيفة أنه في الوقت الحالي "يذهب للقتال من الجمهورية شباب غير مدربين، ولا يعرفون أساليب القتال، وغير مطلعين على أنواع الأسلحة. نطلب ترشيح مدربين من أصحاب الخبرة يستطيعون تأهيل مقاتلين حقيقيين خلال الأشهر الستة المقبلة. بدورنا، سنضمن بكل جهدنا الدعم الشعبي لكل ما يجري تحت قيادتكم".
واستشهدت مستشارة مفتي داغستان بتجربة الشيشان التي أنشأت قواعد للتدريب الميداني، مؤكدة أنه "انطلاقاً من الأرقام المعلنة، والبالغة 300 ألف، وعدد الكيانات الإدارية في روسيا الاتحادية، فإن داغستان، شأنها في ذلك شأن الشيشان، استوفت خطة التعبئة".
وفي العاصمة التي تعرف باحتضانها أكبر نسبة من أصحاب التوجهات الليبرالية والمعارضة، سارع عمدة موسكو سيرغي سوبيانين، وحاكم مقاطعة موسكو التي تضم ضواحي العاصمة، للإعلان عن انتهاء التعبئة الجزئية في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الجاري، في مؤشر لعدم استعداد السلطات المحلية لتحمل المسؤولية عن التداعيات الاجتماعية عن القرارات المثيرة للغضب بين السكان والتي تفرضها عليهم السلطة المركزية. وكتب سوبيانين على مدونته أن "إخطارات الاستدعاء التي أرسلت في إطارعملية التعبئة، إلى محل الإقامة والعمل، يتوقف مفعولها"، واعداً بتحسين أوضاع الإقامة بالوحدات العسكرية التي يؤدي سكان موسكو فيها الخدمة.
وأظهر استطلاع أجراه مركز "ليفادا" أن نسبة استحسان أداء بوتين تراجعت من 83 إلى 77 في المائة بعد الإعلان عن قرار التعبئة الجزئية مباشرة.