تصاعدت عمليات استهداف وهدم قوات الاحتلال الإسرائيلي، خلال الأيام الماضية، النصب التذكارية لرموز النضال الفلسطيني بالضفة الغربية، في محاولة لضرب ما يُعزّز الانتماء في نفوس الأجيال المتلاحقة، لكن الفلسطينيين يؤكدون أن ذلك يزيد من ترسيخ تلك الرموز داخلياً بشكل أكبر.
لا ينسى أحمد فخري عتيق وهو في العقد الخامس من العمر تلك اللحظات التي انهال بها جنود الاحتلال الإسرائيلي عليه بالضرب المبرح باللكمات وأعقاب البنادق، حينما رفض الانصياع لأوامرهم بإنزال علم فلسطين عن عمود كهرباء في حي الجابريات في مدينة جنين بالضفة الغربية المحتلة، إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت عام 1987، ما أفقده الوعي تماماً، ولم يستيقظ إلا وهو في سجن الفارعة التابع للاحتلال آنذاك.
يقول عتيق لـ"العربي الجديد: "كان ذلك في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، أي في أوج محاولات الاحتلال المستميتة لقمع انتفاضة الحجارة، حيث كان يجن جنون جنود الاحتلال الإسرائيلي عندما يشاهدون علم فلسطين يرفرف على سطح بناية سكنية أو معلقا على عمود كهرباء أو على سيارة، لذلك ليس غريباً عليهم أن يقدموا على هدم النصب التذكارية للشهداء ويلاحقوا كل رمز وطني أو يحمل مدلولا وطنيا".
عتيق الذي يحمل اليوم درجة الماجستير في التخطيط السياسي، يتابع كلامه بينما كان يشير بيديه إلى ما تبقى من ركام دوار الشهيدة دلال المغربي القريب من مقر المقاطعة (مقر الأجهزة الأمنية الفلسطينية) في جنين، والذي أقدمت جرافة إسرائيلية على هدمه كليا وتسويته بالأرض خلال اقتحام مدينة ومخيم جنين.
يضيف عتيق: "هو النهج ذاته منذ وطئت أقدام المحتلين أرض فلسطين، حيث يشن حربا بكل ما تحمله الكلمة من معنى بحق الرموز النضالية والوطنية، وضد كل ما يزرع ويعزز الانتماء في نفوس الأجيال المتلاحقة، وكل ما يمجد المقاومين والشهداء، ومن هنا يمكننا أن نفهم لماذا يعملون على إزالة حجارة ونصب يمجد الشهداء ويشيد بتضحياتهم".
تصعيد غير مسبوق
في تصعيد غير مسبوق، هدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي، وبمساندة جرافات عسكرية ضخمة، وأزالت، خلال الأيام القليلة الماضية، معظم النصب التذكارية والمجسمات والدواوير التي تحمل أسماء الشهداء أو تخلد ذكراهم في مدينة جنين تحديدا.
ومن المواقع التي هدمها الاحتلال في جنين "دوار البطيخة" الذي يتوسطه مجسم ضخم لثمرة البطيخ حيث اشتهرت جنين بزراعة البطيخ، ويعتبر مكانا لتجمع المواطنين قبل انطلاق المسيرات والفعاليات، ودوار الأحمدين نسبة إلى الشهيدين أحمد جرار وابن عمه أحمد إسماعيل، وكذلك دوار المحكمة المعروف بدوار الشهيد إياد زرعيني.
كما هدم الاحتلال دوار الشهيد أحمد ياسين ودوار الشهيدة دلال المغربي ودوار العودة القريب من مدخل مخيم جنين، وسبقت ذلك إزالة نصب الشهيدة شيرين أبو عاقلة ودوار الحصان الذي صنع من قطع المركبات وحديد المنازل التي قصفها الاحتلال الإسرائيلي خلال اجتياحه مخيم جنين عام 2002، وقوس النصر على مدخل المخيم.
وشهدت مدن وبلدات ومخيمات الضفة الغربية استهدافا مماثلا، حتى وصل الأمر إلى تمزيق صور الشهداء حتى من منازل الشهداء أنفسهم، كما حدث في بلدة بيت أمر شمال الخليل جنوبي الضفة الغربية فجر اليوم السبت، بل ما كان لافتا هو حرص الاحتلال على وضع علمه على منازل يداهمها في بيت أمر، ووصل الأمر إلى رفع الجنود علم الاحتلال على مئذنة مسجد في مخيم الفوار للاجئين الفلسطينيين جنوب الخليل فجر اليوم.
إفلاس وتخبط كبير وصل إليه الاحتلال الإسرائيلي، يؤكد الناشط السياسي غسان السعدي في حديث لـ "العربي الجديد"، مشيرا إلى أن ذلك يحدث وسط العقلية الانتقامية التي تسيطر على الاحتلال.
يقول السعدي: "لطالما شكّلت الرموز الوطنية، مثل الأعلام والرسومات والصور والنصب التذكارية والدواوير والمجسمات، أداة من أدوات النضال الفلسطيني ضد الاحتلال منذ بداية الثورة، وبدأت تأخذ أهمية أكبر وأصبحت مصدرا للإلهام في انتفاضة الحجارة، ثم انتفاضة الأقصى الثانية التي اندلعت عام 2000، لكنها مؤخرا اكتسبت معاني أكبر خاصة لدى جيل الشباب.
ورغم هذا، يرى السعدي أن هدمها أو إزالتها من طرف الاحتلال لن يدفع الفلسطينيين إلا لمزيد من التحدي والصمود والإصرار على السير على درب من سبقهم، "وهم بذلك يرسلون رسالة للمحتل أننا لا نأبه لهدمك حجرا هنا أو مجسما هناك، فهذا الانتماء بات مزروعا في داخلنا لا يمكن نزعه أو هدمه مهما فعلت".