رمضان شمال غزة.. لا مساجد ولا أذان والجوع ينهش الجميع
أعاد العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة سكان القطاع عقوداً إلى الوراء، إذ لم تعد الكهرباء متوفرة، ولا وسائل المواصلات العصرية، ويعيش عشرات الآلاف في خيام بالية، ولا يملكون أبسط مستلزمات الحياة، وهم يعانون من الجوع بسبب عدم توفر الطعام، وتقييد وصول المساعدات الإنسانية.
وبات الآلاف يعتمدون على رؤية غروب الشمس لمعرفة موعد الإفطار في شهر رمضان، فحتى مدفع رمضان التقليدي الذي كان أجدادهم يفطرون على صوته لم يعد متوفراً، بينما أصوات مدافع الاحتلال وقذائفه وطائراته الحربية لا تتوقف ليل نهار.
وفي أول أيام رمضان، أعلنت مستشفى كمال عدوان وفاة ثلاثة أطفال بسبب سوء التغذية، ليرتفع عدد شهداء التجويع إلى 21 طفلاً ممن وصلوا إلى المستشفيات، مع ترجيح استشهاد أضعاف هذا الرقم من الأطفال وكبار السن والمرضى الذين لم تستطع عائلاتهم الذهاب بهم إلى المستشفيات، خصوصاً في المنطقة المحاصرة شمالي القطاع.
كان التحضير لاستقبال شهر رمضان يسير بشكلٍ صعب في محافظتي غزة والشمال، في ظل غياب العادات والطقوس الرمضانية المعتادة، ورغم الظروف شديدة القسوة، صمم البعض على توفير أصناف من الطعام لإفطار عائلته في اليوم الأول، وقام أخرون بوضع بعض الزينة اليدوية التي صنعوها من بقايا الأوراق الملونة، أو بعض المواد التي كانت مخزنة لديهم، حتى يشعر أطفالهم الذين نجوا من القصف بقليل من بهجة رمضان.
يعتمد الآلاف في غزة على رؤية غروب الشمس لمعرفة موعد إفطار رمضان
ووفق إحصاء للمكتب الإعلامي الحكومي، فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول حتى الخامس من مارس/آذار الحالي، دمر الاحتلال الإسرائيلي 219 مسجداً كلياً في قطاع غزة، والعدد الأكبر منها في المنطقة الشمالية المحاصرة، كما ألحق أضراراً جزئية بالغة بـ287 مسجداً.
وفي كثير من المناطق، يفترش عشرات الغزيين بعضاً من الأقمشة والأغطية إلى جوار المصليات من أجل إقامة صلاة الجماعة، وأداء صلاة التراويح، ومنهم من أقام صلاته في أول أيام شهر الصيام جائعاً، ومن تناول منهم بعض الطعام كان يفتقد الموائد الرمضانية السنوية.
استطاع محمد الخضري (39 سنة) تحضير الطعام لإفطار اليوم الأول، والذي كان يتكون من علبة جبن فيتا وزعتر ودقة فلسطينية، ورغم بساطة الطعام الذي تمكن من توفيره إلا أنه كان سعيداً لأن سعيه للبحث عن طعام أسفر عن حصوله على هذه الأصناف، مؤكداً أنه كان يشعر بالرضا حين تناولها. يضيف: "كنت سعيداً لأنني استطعت توفير الطعام، لكني في الوقت نفسه كنت أشعر بالحزن لأنها أول مرة في حياتي لا أسمع فيها أذان المغرب في رمضان. في السابق كانت المساجد تصدح في وقت واحد بالأذان، فنتناول طعام الإفطار، بينما هذا العام لا موائد طعام ولا أذان".
يوضح الخضري لـ"العربي الجديد": "أشعر أنني في حلم بشع أو كابوس مخيف، فلم يتخيل أحد من سكان غزة أن يصوم رمضان من دون أذان، أو من دون الموائد الرمضانية التي تجمع العائلة، اليوم نحن جائعون منذ أشهر، لكننا نصوم لأن لدينا إيمان حقيقي، ونحمل ديننا بداخلنا. اليوم تمكنت من تأمين الطعام للإفطار، وغداً لا أعرف إن كنت سأفطر أم لا. نريد أن يرى العالم كيف نواصل ممارسة شعائرنا الدينية رغم معاناتنا. كنت أمشي في السوق بحثاً عن علبة مربى فواكه مخزنة، أو أي شيء يذكرني بموائد رمضان، لكني لم أجد، وما يحزنني أنه كان لدينا آمال كبيرة في المجتمع الدولي والعالم الإسلامي، وقدرتهم على وقف الحرب قبل شهر رمضان، لكننا تعرضنا مجدداً للخذلان من الجميع".
غابت العادات والطقوس الرمضانية عن قطاع غزة بسبب العدوان
كان الخضري أكثر حظاً من غيره، فالكثير من الغزيين لم يجدوا طعاماً مناسباً لوجبة الإفطار بعد يوم الصيام الطويل، وأفطر كثيرون على المياه وقطع من الخبز، واعتمد بعض من كانوا في مناطق بعيدة عن مركز محافظة غزة وشمال القطاع على غروب الشمس في معرفة موعد الإفطار، فالمساجد القريبة من منازلهم دمرت، ولا توجد وسائل أخرى لمعرفة موعد أذان المغرب.
من بين هؤلاء إسحق أبو زر (50 سنة)، والذي انتظر حتى غربت الشمس ليفطر، وكان يشعر بحسرة كبيرة لأنه لم يستطع توفير طعام مناسب لأولاده، رغم وجوده طيلة يومين في شارع عمر المختار، في محاولة للحصول على بعض الطعام.
ويقدر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، تواجد قرابة 350 ألف نسمة في المنطقة الشمالية التي كانت أكثر مناطق القطاع اكتظاظاً بالسكان قبل العدوان الحالي، لكنها شهدت موجات متكررة من النزوح خلال الأشهر الماضية، كان أخرها في نهاية فبراير/شباط الماضي، ويعيش سكان الشمال في عزلة كاملة عن المنطقتين الوسطى والجنوبية بعد أن أقام الاحتلال شارعاً عرضيا في وسط القطاع، ورغم دخول شهر رمضان، لم تدخل شاحنات المساعدات إلى المنطقة المحاصرة، لكن تصل إليها بعض كميات الطعام عبر عمليات الإنزال الجوي، لكنها لا تلبي حاجتهم.
يقول أبو زر لـ"العربي الجديد": "قضيت وقتاً طويلاً في البحث عن الطعام مع الكثير من الناس في وسط مدينة غزة، لكن الطعام غير متوفر، وكان إفطارنا في أول أيام رمضان على الأرز مع الملح والبهارات، فلا يتوفر لدينا شيء غير ذلك، وقد انتظرنا لفترة أن نسمع الاذان، لكن تنبهنا لاحقاً إلى أن المسجد مدمر، حينها سمعت من جاري في حي الجلاء القريب من منطقة الزرقاء أن موعد الأذان قد حل، وبعدها رأيت غروب الشمس، فأخبرت زوجتي وإخوتي المتواجدين في منزلنا أن يفطروا ويستغفروا".
يضيف: "عشت عدة رحلات نزوح، ثم عدت مجدداً إلى منزلي المدمر جزئياً، وفي أي وقت يمكن أن يصيبنا مكروه لأننا محاصرون من كل مكان، وجيش الاحتلال يواصل تهديدنا، ولا أذان ينطق، ولا أحد يستجيب لمأساتنا، ولو كان لأمعائنا صوت لسمعها العالم الذي يواصل الصمت عن المجازر المتكررة في غزة".
ويحاول الغزيون الإبقاء على تجمعهم داخل المناطق المحاصرة، فيوجد سكان مدينة غزة في مراكز أحياء النصر والرمال والشيخ رضوان، أو بالقرب من مجمع الشفاء الطبي، في محاولة للتكاتف خلال شهر رمضان، ومحاولة الحصول على أي طعام، أو شراء ما يتوفر، إلى جانب إبلاغ بعضهم البعض بموعد أذان المغرب للإفطار.
وكانت طقوس الغزيين الرمضانية مختلفة تماماً خلال السنوات السابقة، إذ كان كثيرون يقومون بالإفطار على الشاطئ، ثم يذهبون إلى المساجد المطلة على بحر غزة للصلاة، ومنها مسجد الخالدي، والذي كان يعتبر أحد أهم مساجد القطاع، وعرف بطرازه المعماري والهندسي الجميل، وكان يمتد على مساحة كبيرة يجتمع فيها الناس لأداء صلاة التراويح، لكن الاحتلال دمره بالكامل.
يعلم محمد بعلوشة (35 سنة) أن شارع البحر بمثابة شارع موت، وقد شهد عدة مجازر سابقة بحق من ينتظرون الحصول على المساعدات، لكنه لم يكن يكترث كثيراً، وقرر أن ينتظر على شاطئ البحر مع كثيرين في أول أيام شهر رمضان بعد أن سمعوا عن دخول شاحنات مساعدات، لكن انتظارهم الطويل انتهى إلى لا شيء، فلم تدخل أية مساعدات، وخلال عودته تفقد عدداً من المساجد التي كان يصلي فيها خلال السنوات السابقة بعد أن يتناول طعام الإفطار على الشاطئ.
خلف العدوان عدداً من الشهداء من عائلة بعلوشة، بمن فيهم شقيقه راسم (45 سنة) واثنين من أبنائه الذين كانوا يرافقونه في كل شهر رمضان لشراء الطعام من سوق الزاوية، وهو أشهر أسواق مدينة غزة التاريخية. يقول لـ"العربي الجديد": "صمت جائعاً من دون سحور، وأفطرت على قطعة خبز وبعض المياه في اليوم الأول، وأفطرت أسرتي التي تعيش مع عائلة من أقاربنا بالقرب من مجمع الشفاء الطبي على بقايا طعام، وكانت الكميات قليلة ولم تكفهم. كنا نعيش في السابق حياة ملؤها الحرمان والحصار، وغياب كثير من المقومات، لكننا حالياً نتذكر كل ذلك على أنه جميل، رغم أننا كنا نعاني بسبب الكهرباء والمياه، لكننا كنا راضين، وفي هذا العدوان، ومع دخول شهر رمضان، أصبحنا لا ننتظر شيئاً من أحد، فلا أحد يهتم بإنقاذنا، لذا نتفرغ للعبادة رغم أن المساجد مدمرة، ونكرر الصلاة والدعاء رغم أن أمعاءنا شبه فارغة".