حصل "العربي الجديد" على رسالة مسربة من سجين سياسي مصري على خلفية قضية نشر، يتحفظ على ذكر اسمه وكشف هويته حفاظاً على سلامته، يعرب فيها عن مخاوفه من التفكير في الانتحار الذي يراوده بسبب ظروف الحبس.
السجين السياسي عنون رسالته التي نقلتها أسرته بـ"لماذا أفكر في الانتحار"، وقسم أفكاره إلى سبعة محاور: الأول يبدأ بوصف مفصَّل واستعراض مطوَّل لظروف الحبس: "عندما تصير حياتك كسجين رأي كتلة من العذاب. تعيش حياتك في لحدٍ عرضه 45 سم وطوله 175 سم هي نصيبك من الزنزانة تأكل وتشرب فيه ليلك ونهارك فيه، يلتصق بكَ ألحادٌ من كل اتجاه، كأنك في مقبرةٍ جماعيةٍ "لجثثٍ حية" تحوي 35 - 42 جثة. تتنفسُ فلا تجدُ إلا الهواء الثقيل المحمل بالعدوى وتلوث المصانع القريبة عبر نوافذ مفتحة على الدوام تقذفك بلهيب الصيف وبرودة الشتاء. تنقطع الكهرباء فتتوقف المراوح المتهالكة وتلتهب جثث الأحياء، أما المياه فالأصل فيها الانقطاع".
تعيش حياتك في لحدٍ عرضه 45 سم وطوله 175 سم هي نصيبك من الزنزانة تأكل وتشرب فيه ليلك ونهارك فيه
وتابع واصفاً ظروف حبسه: "يهاجم جسدك الهزيل الحشرات الطائرة والزاحفة من كل اتجاه، الذباب الصحراوي برذالته وبعوض المجاري بلسعاته، وإذا غلبك النوم زحف عليك البق والصراصير من أوكارها، وخرجت إليك فئران المجاري. ممنوع عليك المبيدات حتى لا تستخدمها للانتحار. تنهش جلدك الأمراض المنتقلة بسهولة عبر جثث الأحياء المتلاصقة، إضافة إلى التسلخات وقرحة الفراش من النوم أرضاً في اللحد الخرساني. يصبح تناول الطعام آلاماً وإخراجه آهات، آلام اللثة والأسنان وطعنات البواسير والشروخ الشرجية، ومن أين لك جراحة أو علاج؟".
وعن المرض في الزنزانة والمرضى، كتب: "أما مرضى القلب والكبد والكلى والأورام فالموت البطيء هو المصير المحتوم، وهذه حالات متكررة. إذا دخلت الحمام… بدأت جلسة تعذيب بآلام الركب والحوض، ومياه المجاري المتساقطة عليك من الطابق الأعلى".
التشريفة عند وصول السجن تعني ساعات من التعري والضرب والإهانة والإذلال فتتمنى صادقاً الموت
"أما مثولك أمام العدالة المرجوة كل 45 يوماً -قاصداً جلسات تجديد الحبس التي تنظرها المحكمة كل 45 يوماً طبقاً للقانون المصري في حالات الحبس الاحتياطي الممتد لعامين- فهذا هو يوم الحشر والشحن في أقفاص الخنازير المليئة بالمخلفات لتجديد حبسك الاحتياطي باستمرار ضمن متوسط 250 - 300 سجيناً يومياً، يتم نقلهم وشحنهم في أقفاص معدنية محملة على ناقلات لا تصلح للحيوان وعندما تصل إلى المحكمة يتم حشر الجميع في قبو تحت الأرض أو أقفاص قذرة معزولة السمع والرؤية. ناهيك عن التفتيش أربع مرات في يوم طويل يبدأ في السابعة صباحاً ولا ينتهي إلا في ظلام الليل".
استمرارك في الحياة معاناة لأهلك
المحور الثالث، كتب فيه السجين السياسي عن معاناة الأهل في الخارج، فكتب: "عندما يصبح استمرارك في الحياة معاناة مزمنة لأهلك والأحباب. معاناة نفسية وجسمانية ومادية، بآلام الفراق والفقدان والقلق الدائم عليك إلى التذنيب على بوابات السجون لساعات في حريق الصيف ورياح الشتاء بعد سفر يطول إلى 12 ساعة من أقاصي الصعيد وأطراف الصحراء. أما من أين يحصلون على المال لك ولمعاشهم فكل له مأساة بعد الطرد من الوظيفة ومصادرة الممتلكات. فلم لا تريحهم بغيابك عن الحياة فيتألمون مرة واحدة عند موتك ثم تنسيهم الحياة ويتذكرونك بالرحمات في المناسبات، وربما اعتبروك من الشجعان والأبطال فيذكرونك بسعادة وافتخار".
روتين الحياة في السجن هو ملخص المحور الرابع، الذي كتب عنه السجين السياسي "عندما يتحكم الغير في حياتك كاملة بالإخضاع والإذلال"، وواصل وصف هذا الإخضاع "كيف ومتى تصحو وتنام؟ ماذا تأكل وتشرب؟ أي هواء تتنفس؟ أي ملابس تلبس؟ بل حتى وكيف تتبول وتتبرز؟ في كنيف أم في أكياس؟!! من يزورك من أهلك؟ ومتى وكيف؟ في قاعة أم عبر الأسلاك الشائكة والشباك الحديدية. إنه تحكم في "حوض فئران التجارب"، فهل تستمر في العيش كفأر سجين؟! حتى التحكم في طريقة موتك فالمطلوب موتك بطيئاً عليلاً متعذباً لا أن تسقط سريعاً سليماً مستريحاً من ويلات السجون".
تعريف الأمن القومي المتوحش المتمدد كفكي أفعى يسمم كل هؤلاء ويبتلعهم في جوف السجون. وأنت منهم
نظرة النظام للسجين السياسي، هي ما تحدث عنه الكاتب في المحور الخامس، "عندما يتم تصوير وجودك في الحياة بأنه ضار بالأمن القومي: أي أنك ضار لأهلك وبلدك؟! حتى لو كنت لا تستطيع الحراك إلا بكرسي المرضى، حتى لو كنت أعمى أو أبكم أو أصم أو مشلول، وحتى لو كنت طفلاً لم تبلغ 14 عاماً، أو كهلاً مسناً بسبعين عاماً ينهش السرطان جسده. ولكن تعريف الأمن القومي المتوحش المتمدد كفكي أفعى يسمم كل هؤلاء ويبتلعهم في جوف السجون. وأنت منهم، ورغم أنك لا تلقي ورقة في الشارع ولا تكسر إشارة مرور حفاظاً على النظافة والنظام. ولا تميز الأفعى المذعورة سجين الرأي عن غيره، وحتى لو لم يكن لك رأي أصلاً ولم ترتكب جرماً".
رهينة لابتزاز الأموال
ثم في المحور السادس من الرسالة، انتقل الكاتب لرهن الوضع السياسي الخانق في مصر بمسارات وتقاطعات مصالح الدول، فكتب: "عندما تصبح أنت وآلاف السجناء رهينة لابتزاز الأموال من الغرب والخليج: فالمتخوفون منك ومن أي تغيير، عليهم أن يدفعوا للنظام الحاكم عشرات المليارات حتى لا يخرج هؤلاء الإرهابيون ويعبروا البحار للنهب والخراب، وحتى المتعاطفون مع سجناء الرأي والمطالبين بالإفراج عنهم عليهم أن يدفعوا الفدية في شكل قروض ومساعدات يعيش عليها النظام. وفي كلتا الحالتين أنت جزء من منشار مزدوج للابتزاز".
لطمة على وجه المتلذذين بعذابك
ثم ينهي السجين رسالته بالمحور السابع والأخير، واصفاً الانتحار الذي يراوده بين الفينة والأخرى، كيف يفكر فيه تارة ويستبعده تارة أخرى، فكتب: "عندما يحلل المتشدقون بالدين والوطنية السجن والتنكيل ويحرمون عليك الانتحار: نم، يحرمون عليك الانتحار للخلاص من العذاب. فلم تمتثل إلى أهوائهم وتستمر في الحياة. كل هذا وأنت قابع في لحد فراشك "حبيس أبواب" لسجنك، فلم لا تجعل نهاية حياتك لطمة على وجه المتلذذين بعذابك ومعاناتك والمتشوقين لركوعك طالباً العفو والمتاجرين بك كرهينة، ولم لا تكون نهايتك صرخة في وجه المبررين والمحللين الذين وضعوا ضمائرهم في بطونهم. وإذا كنت من المؤمنين بالله وبالحياة الأخرى، فإن إنهاء حياتك ينقلك من ظلم البغاة إلى رحمة الخالق الغفار، وإذا كنت من غير المؤمنين، فإنك تغادر معاناة الحياة إلى راحة العدم والفناء وفي كل الأحوال تبقى ذكراك رمزاً على المقاومة والإباء، ويبقى قبرك شاهداً على الظلم والطغيان، إن الموت أرحم من حياة تقوم على المهانة والآلام".