ذكرى معركة كورسك... آخر هجوم استراتيجي لألمانيا النازية

04 يوليو 2023
النصب التذكاري لمعركة الدبابات الحاسمة في كورسك (سكوت بيترسون/Getty)
+ الخط -

تحل الأربعاء 5 يوليو/تموز، ذكرى مرور 80 عاماً على انطلاق معركة كورسك المعروفة أيضاً باسم "قوس كورسك"، والتي تعد حدثاً مفصلياً في تاريخ الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) لناحية تداعياتها العسكرية.
استمرت المعركة الكبيرة 50 يوماً كاملة، وجمع الجيش السوفييتي (الجيش الأحمر) خلالها بين عمليات استراتيجية دفاعية وأخرى هجومية في الفترة الممتدة من 5 يوليو/ تموز وحتى 23 أغسطس/ آب 1943.  
أسفر التقدم السوفييتي في الموسم الشتوي 1942ـ 1943 والانسحاب الاضطراري أثناء العملية الدفاعية من خاركوف السوفييتية، خاركيف الأوكرانية حالياً، عن تكون ما عرف بجيب كورسك. شكلت قوات جبهتي الوسط وفورونيج المترابطة فيه تهديداً لجيشي الوسط والجنوب الألمانيين النازيين، واللذين كانا يشغلان أيضاً مواقع تتيح لهما شن ضربات قوية على القوات السوفييتية المدافعة في محيط كورسك، وهو ما كانت تؤكده معلومات استخباراتية حول عزم القيادة الألمانية شن تقدم حاسم. 
ومن أجل تحقيق هذا الهدف، أعدت القيادة العسكرية الألمانية لتقدم صيفي واسع النطاق لإلحاق هزيمة بالقوات الرئيسية للجيش الأحمر بالمقطع الوسطي للجبهة السوفييتية - الألمانية لاستعادة المبادرة الإستراتيجية، وخلق تهديد للعاصمة موسكو وتحويل مجرى الحرب لصالحها. 
وأطلق على العملية الألمانية اسم سيتاديل "القلعة"، وتمت الاستعانة فيها بخيرة فرق ووحدات الجيش الألماني "فيرماخت"، واستعد الاتحاد السوفييتي هو الآخر لمواجهته من خلال تركيز القوات، أفراداً ومعدات، على هذه الجبهة، واضعاً خطة لشن تقدم مضاد بعد إجراء عملية دفاعية استراتيجية. 
صباح 5 يوليو/ تموز، بدأت القوات الرئيسية للمجموعة الضاربة الألمانية تقدماً برياً مدعوماً بضربات جوية، وقد تمكن خلال اليوم الأول من هذا الهجوم من اختراق خط الدفاع الأول للقوات السوفييتية، لكن قواته لم تتمكن من اختراق خط الدفاع الثاني في الأيام التالية. وبعد استنفادها قدراتها الهجومية، تحولت القوات الألمانية إلى الدفاع، بينما بدأت القوات السوفييتية بالتأهب للهجوم المضاد الذي انطلق في 12 يوليو/ تموز، متمكنة بواسطة ضربات مركزة من اختراق الدفاع الألماني، ومحررة في الأسابيع المقبلة عدة مدن سوفييتية واحدة تلو الأخرى، ومن بينها أوريول وبيلغورود وخاركيف. 
ويرجع المؤرخ العسكري الروسي، أليكسي إيسايف، أهمية "معركة كورسك" إلى دورها الحاسم في إلحاق خسائر فادحة بالقوات الألمانية، أفراداً وعتاداً، وإفشال المحاولة الألمانية الأخيرة لاستعادة زمام المبادرة بعد أشهر عدة على الهزيمة الأليمة في "معركة ستالينغراد" التي انتهت في مطلع فبراير/ شباط 1943.      
ويقول إيسايف في حديث لـ "العربي الجديد": "تعد معركة كورسك بمثابة إفشال المحاولة الأخيرة للجيش الألماني للإمساك بزمام المبادرة وإلحاق هزيمة كبرى بالقوات السوفييتية. بعد الفشل في ستالينغراد، استعاد فيرماخت عافيته في ربيع عام 1943، وألحق هزائم محلية بالقوات السوفييتية، بما فيها السيطرة على خاركوف، ووقف العمليات التقدمية للجيش الأحمر على مشارف لينينغراد (سانت بطرسبورغ حالياً)، وأوريول، وفي شبه جزيرة كوبان في شمال القوقاز". 

الصورة
تعد معركة كورسك إحدى أشرس معارك الحرب العالمية الثانية (سكوت بيترسون/ Getty)
تعد معركة كورسك إحدى أشرس معارك الحرب العالمية الثانية (سكوت بيترسون/ Getty)

ويوضح أن هذا الوضع دفع بالقيادة السوفييتية إلى اتخاذ قرار إلحاق ضربة كبيرة بالعدو لاستنزافه، ومحاولة الدفع به غرباً. "كان القائد العسكري السوفييتي المارشال غيورغي جوكوف، يعتبر أن قوات المشاة الألمانية ضعيفة، ولن تساعدها دبابات جديدة، وكُشفت على وجه الدقة خطة العملية الألمانية المسماة (القلعة) القاضية بإلحاق ضربات بالوجهين الشمالي والجنوبي لجيب كورسك. وبالتزامن مع ذلك، أعد الجيش السوفييتي الأحمر لعملياته التقدمية". 
ويلفت إيسايف إلى تحقق جميع الحسابات السوفييتية، قائلاً: "لم يتمكن الألمان من اختراق الدفاع السوفييتي في جيب كورسك، بينما شكلت العمليات التقدمية للجيش الأحمر في دونباس، وبالقرب من أوريول نهاية لعملية القلعة. إثر ذلك، تكبد الألمان خسائر فادحة في الأفراد والعتاد، واضطروا للانتقال إلى الإستراتيجية الدفاعية، والتراجع إلى نهر دنيبر، وبعد ذلك، لم يتمكن فيرماخت من شن أية عمليات تقدمية ذات أهداف إستراتيجية على الجبهة السوفييتية - الألمانية حتى عام 1945، مكتفياً بالدفاع". 
ويشير المؤرخ العسكري الروسي إلى أن "تحرير دونباس على إثر معركة كورسك، كان له أهمية اقتصادية كبرى للاتحاد السوفييتي، كونه شكل دفعة جديدة للصناعات العسكرية، إذ إن نصف أبراج دبابات (إي إس-2) الثقيلة في عام 1944، كان ينتج في ماريوبول".  

وبلغة الأرقام، تعد معركة كورسك إحدى أشرس معارك الحرب العالمية الثانية، وشارك فيها من الجانبين السوفييتي والألماني أكثر من 4 ملايين فرد، وأكثر من 69 ألف قطعة من الأسلحة والقاذفات، وأكثر من 13 ألف دبابة وعربة مدفعية، وما يصل إلى 12 ألف طائرة. وبلغت الخسائر البشرية في صفوف القوات الألمانية أكثر من 500 ألف فرد، في مقابل نحو 250 ألفاً في صفوف القوات السوفييتية.   
وعلى إثر المعركة، منحت موسكو أوسمة وميداليات لأكثر من 100 ألف فرد، بينما نال أكثر من 200 فرد لقب بطل الاتحاد السوفييتي.
رغم ذلك، لم تخل الإدارة السوفييتية لمعركة كورسك من ثغرات هامة أثرت على سير المعارك، وتسببت في سقوط هذا العدد الضخم من الضحايا في صفوف قواتها، ويعود الأمر جزئياً إلى عدم استكمال خطة الاستعدادات المضادة على الجبهة بحلول موعد بدء التقدم الألماني نظراً لعجز الاستخبارات السوفييتية عن رصد مواقع قوات العدو وأهدافه في ليلة 5 يوليو.  
ويؤكد مؤرخون أنه في أحيان كثيرة، كان يتم الإعداد للضربات المضادة على عجالة، وكانت بعضها تستهدف قوات ألمانية لم تستنفد قدراتها التقدمية بعد، وبالتالي لا تحقق هدفها النهائي، بل كانت تضطر القوات السوفييتية للتحول من الهجوم إلى الدفاع. 

المساهمون