بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الأزمة بين بطريركيتَي موسكو والقسطنطينية على أثر اعتراف الأخيرة بـ"الاستقلالية الروحية" لبطريركية كييف عن موسكو، ما زالت تداعيات هذا الانشقاق تتمدّد في العالم الأرثوذكسي، وهذه المرّة على خلفية إنشاء الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إكسرخسية بطريركية (وحدة إدارية للكنيسة تقع خارج أراضيها الرئيسية) لها في أفريقيا، الأمر الذي زاد من التوتّر بين بطريركيتَي موسكو والإسكندرية.
وجاء قرار الكنيسة الأرثوذكسية الروسية رداً متأخراً على اعتراف بطريرك الإسكندرية وسائر أفريقيا، ثيودوروس الثاني، في عام 2019 باستقلالية الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية كييف، الأمر الذي دفع قسماً من كهنة بطريركية الإسكندرية للروس الأرثوذكس إلى طلب الانتقال تحت سيادة المجمع المقدس للكنيسة الروسية.
وفي هذا الإطار، يرى كبير الباحثين في قسم الدراسات الاجتماعية والسياسية بمعهد أوروبا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، رومان لونكين، أنّ "الانقسام بين بطريركيتَي موسكو والإسكندرية يشكّل امتداداً للسجال في عالم الأرثوذكسية على وضع الكنيسة الأوكرانية المنشقّة"، معرباً عن أسفه لما يعدّه "خيانة" البطريرك ثيودوروس الثاني. ويقول لونكين لـ"العربي الجديد": "هذا امتداد للخلاف بين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والبطريركية القسطنطينية. ومن وجهتَي النظر الاقتصادية والنفسية، هذه رغبة في الإظهار أنّ نفوذ الكنيسة الروسية لا يقل عن القسطنطينية".
ويأسف لونكين لاعتراف بطريركية الإسكندرية بالكنيسة الأوكرانية، مضيفاً: "كانت ثمّة زيارات متبادلة مكثّفة بين بطريركيتَي موسكو والإسكندرية، وكان التعاون بينهما متبادل المنفعة، خصوصاً أنّ الكنيسة الروسية أغنى من بطريركية الإسكندرية، فكان يصبّ بدرجة أكبر في مصلحة الأخيرة. ولكنّ بطريركية الإسكندرية دعمت انشقاق الكنيسة الأوكرانية التي أسّسها الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو، وبذلك خان ثيودوروس الثاني الكنيسة الأرثوذكسية الروسية". وحول دوافع الكنيسة الروسية لتأسيس الإكسرخسية في أفريقيا، يقول لونكين: "ينبع ذلك من حرص الكنيسة الأرثوذكسية الروسية على إظهار نفوذها في العالم، وقد بدأت منذ عام 2018 بإنشاء أبرشيات جديدة، ووصلت الآن إلى أفريقيا، وهو ما تعدّه بطريركية الإسكندرية اقتحاماً لمنطقتها".
ويُعدّ لونكين التنافس الجاري بين الكنيستَين الروسية واليونانية "واحداً من أكبر الانقسامات في تاريخ المسيحية منذ تفرّع المسيحية إلى الكاثوليكية والأرثوذكسية في عام 1054"، لافتاً إلى أنّ "القسطنطينية لم تكن تتصرّف وفقاً لاعتقاداتها الخاصة، إنّما من ضمن مجرى سياسات معاداة روسيا بدعم أميركي. فسقطت بطريركية الإسكندرية من ضمن هذا المجرى".
من جهة أخرى، يرى الصحافي الأوكراني فيتالي بورتنيكوف أنّ "إنشاء إكسرخسية الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في أفريقيا ليس انشقاقاً، بل انعكاس لتصرف بطريركية موسكو لاعتبارات سياسية بعلم بطريرك موسكو وسائر روسيا كيريل". ويقول في اتصال مع "العربي الجديد" من كييف: "أنا على قناعة بأنّ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تتصرّف من خارج منطقة اختصاصها، والبطريرك كيريل نفسه يدرك ذلك جيداً. وحتى قبل تأسيس الكنيسة الروسية، تمّ تثبيت أفريقيا كمنطقة تابعة لبطريركية الإسكندرية، وليست للكنيسة الروسية صلاحيات للتدخّل بها". يضيف بورتنيكوف: "نرى أنّ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تتصرّف انطلاقاً من دوافعها السياسية، ولا يحقّ لها إنشاء فروع لها في أفريقيا".
وتؤيد المحللة الدينية تاتيانا ديركاتش هذا الرأي، قائلة في تعليق لقناة "ناستوياشيه فريميا" (الزمن الحالي) الناطقة بالروسية والممولة أميركياً: "تمارس بطريركية موسكو، شأنها في ذلك شأن الكرملين، نظام الحرب الهجينة. فالوثائق تحدّد أراضي رعاية الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بحدود مملكة موسكو بحلول نهاية القرن السادس عشر، وهكذا تحديداً اعترف بها اليونانيون دوماً. لكنّها شملت فعلياً فضاء الاتحاد السوفييتي السابق بأسره وحتى أكثر من ذلك، والآن أُضيفت إليها أفريقيا. والأمر الأكثر إثارة للضحك هو أنّه بات في إمكان البطريرك كيريل أن يسمّي نفسه بطريرك موسكو وسائر روسيا وسائر أفريقيا".
وكان المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية الروسية قد اتّخذ في 29 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قرار تأسيس الإكسرخسية في أفريقيا، لتضمّ أبرشيتَي شمالي وجنوبي أفريقيا. إلى جانب ذلك، ضمّت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية 102 من الكهنة من ثماني دول أفريقية من دون الكشف عن أسمائهم والكنائس التي يخدمون بها. ومع ذلك، كشف الموقع الرسمي لبطريركية موسكو أنّ أبرشية شمالي أفريقيا تضمّ نحو 30 بلداً تمتد من المغرب ومصر حتى جمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان، فيما تضم أبرشية جنوبي أفريقيا 23 بلداً، بما فيها جمهورية جنوب أفريقيا ومدغشقر وأنغولا وزامبيا وغيرها. وبرّرت الكنيسة الروسية قرارها باعتراف ثيودور الثاني بالكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المنشقة. وقد أثار قرار الكنيسة الأرثوذكسية الروسية حفيظة ثيودوروس الثاني الذي وصفه بـ"الغزو اللاأخلاقي"، وسط تزايد التوتّر بين بطريركيتَي موسكو والإسكندرية.