جعلت ويلات الفقر والعوز والإعاقة واليتم، الناتجة عن العقود الأربعة الأخيرة من الحرب بأفغانستان، من التسوّل ظاهرة اجتماعية يمارسها كُثر، خصوصاً أن معدل البطالة مرتفع دائماً فيها. وكانت الحكومات المتعاقبة تستطيع تحسين الحالة المعيشية والاجتماعية بعدما حصلت على أموال طائلة بعد عام 2001، لكنها لم تفعل الكثير، ولم تنفذ حتى أي خطوة عملية للقضاء على ظاهرة التسوّل.
واللافت أنه رغم عجز حركة "طالبان" التي سيطرت على البلاد نهاية أغسطس/ آب الماضي، عن دفع رواتب الموظفين الحكوميين، والذي يعتبر بدوره أحد أسباب تعزيز التسوّل، أعلنت حكومتها وضع آلية لاحتواء الظاهرة. وأورد بيان أصدرته الحركة في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري أن "اجتماع مجلس الوزراء الذي ترأسه الملا محمد حسن أخوند قرر احتواء ظاهرة التسوّل في أفغانستان عموماً والعاصمة كابول خصوصاً، بعدما ناقش بالتفصيل قضية المتسوّلين في الشوارع والأسواق، وارتفاع عددهم، وحوّل الأمر إلى الهلال الأحمر الأفغاني لإعداد دراسة حول القضية تحدد الاحتياجات الفعلية لهؤلاء الأشخاص من مأوى وطعام وأدوية وغيرها، تمهيداً لاتخاذ إجراءات مناسبة بالتنسيق مع أجهزة الأمن في كابول وباقي الإدارات المعنية. ونطالب بتقديم تقرير وافٍ عن المتسولين قريباً إلى مجلس الوزراء".
ولاقت خطوة "طالبان" قبولاً وترحيباً واسعين لدى الأفغان، وتحديداً المهتمين بالقضايا الاجتماعية، بينهم الناشط نقيب الله وحدت الذي يقول لـ"العربي الجديد": "قد لا تستطيع طالبان فعل شيء مهم في شأن ملف التسوّل وملفات أخرى مشابهة، لكن اهتمامها بشؤون البلاد خصوصاً تلك الاجتماعية أمر جيد".
يضيف: "قضية المتسوّلين ليست وليدة اليوم واللحظة، بل موجودة منذ القدم في أفغانستان، وتعتبر من الآثار السيئة التي خلفتها الحرب، فيما من الطبيعي أن يقل عدد المتسوّلين ويزداد بحسب الأحوال السائدة. وحالياً وصلت الظاهرة إلى ذروتها، حيث لا يخلو شارع من أعداد كبيرة من المتسوّلين النساء والرجال والأطفال.
ويزعم الفتى سميع الله خان (12عاماً) أنه متسوّل جديد، ويخبر "العربي الجديد" أنه عمل في دكان بمنطقة مندوي وسط كابول، حيث تقاضى راتباً مقداره 6 ألاف أفغانية (64 دولاراً)، وينقل عن والده قوله إنه عمل سابقاً في الشرطة، وتقاضى راتباً جيداً لم يحدده، ما جعل أمور المنزل تسير في خير، قبل أن تتغيّر الأوضاع إثر سقوط كابول في يد "طالبان"، ما جعل أباه بلا عمل. ثم طلب صاحب الدكان بأن يترك سميع الله العمل، لأنه لا يستطيع أن يدفع له أجره بسبب الركود الاقتصادي، فبات الأب والابن بلا عمل.
حالياً، يعمل الوالد مقابل أجر يومي في حال وجد أي فرصة في الشارع، بينما بحث الابن بلا جدوى عن عمل، ما دفعه إلى التسوّل في سوق شهر نو، حيث يساعده الناس لأن لديه مشكلة في إحدى رجليه. وهو يكسب يومياً بين 500 أفغانية (5 دولارات) و700 أفغانية (7 دولارات)، يستخدمها في تسيير أمور المنزل.
يقول سميع الله لـ"العربي الجديد": "كنت أتمنى أن أدرس، لكن أبي ألحّ علي للعمل في الدكان الذي كان جيداً خصوصاً أن صاحبه عاملني بلطف، ومنحني طعاماً جيداً. أما اليوم فأتسوّل، وأخذ الطعام لأسرتي، وأؤمن ما تحتاجه".
وأمام مطعم كباب في منطقة شهر نو يجلس طفل آخر يدعى أحمد جاويد مع أمه التي عملت سابقاً في وزارة شؤون النساء، لكنها بلا وظيفة منذ عامين، ويمدّ كفه للناس الذين يعطونه بحسب استطاعتهم، وفي وقت الغداء والعشاء، يدخل الطفل إلى المطعم لتناول الأكل. وفي الليل يعطيه صاحب المطعم ما تبقى من الطعام كي يأخذه معه للمنزل، ما يدفعه إلى القول في حديثه لـ"العربي الجديد": "يساعدني صاحب المطعم كثيراً كي أكسب أموالاً لإخوتي وأخواتي".
وإلى جانب المحتاجين يستغل عدد كبير من المتسوّلين الوضع الحالي. ويتحدث إسكافي يدعى برويز خان يعقوب يجلس قرب مسجد حجي يعقوب لـ"العربي الجديد" عن "خدعة" يقوم بها شاب يدعى عصمت الله والذي يمسك ابنته الصغيرة من يدها، ويقول للناس إنها لم تأكل منذ الصباح، وأنهما يحتاجان إلى الطعام، ويطالبهم بعدم منحه فلوساً بل خبزاً، ما يدفع الناس إلى إعطائه الفلوس رأفة بابنته الصغيرة.
ويقول برزيظ خان: "عصمت الله من محترفي التسوّل منذ أعوام، ويطبق حيلاً مختلفة لجمع أموال وفلوس من الناس. وهناك شخص آخر يدعى كل بادشاه يخبر الناس أنه عمل سابقاً في الشرطة، وأنه أقيل أخيراً ويحتاج أولاده إلى غذاء وطعام، لكنه في الحقيقة حرفي من الدرجة الأولى".