مثل كل عام في الوقت نفسه، توجهت سمية إلى مكتبة محددة في وسط مدينة منفلوط بمحافظة أسيوط، جنوبي مصر، لتشتري "الكتب الخارجية" المستعملة لأبنائها الأربعة، إذ لا تكفي كتب وزارة التعليم وحدها خلال العام الدراسي. والكتب الخارجية هي كتب تشرح المناهج التعليمية بشكل مفصل، ويفضلها التلاميذ على الكتب الرسمية.
جمعت سمية قبل الذهاب إلى المكتبة نحو خمسمائة جنيه، واختارت الكتب المطلوبة لأبنائها، ثم أعطت المال للبائع، والذي كان رد فعله صادماً، إذ طالبها بثلاثمائة جنيه إضافية (سعر الدولار الواحد يقترب من عشرين جنيهاً)، تقول لـ"العربي الجديد": "زادت أسعار الكتب الخارجية المستعملة. مثلها مثل كل شيء، حتى أحرقت جيوبنا. أنا موظفة بوزارة الصحة، وليس أمامي بديل سوى شراء تلك الكتب، وبدل أن أعود بلا كتب، نفذت نصيحة البائع الذي أشار إلي بشراء الكتب الأسوأ حالاً، كونها أرخص".
وتشرح أن "هناك نوعين من الكتب المستعملة، أولها من حافظ عليها أصحابها من التلاميذ، فلم يدونوا فيها ملاحظاتهم تحسباً لبيعها للمكتبات بعد انتهاء العام الدراسي بهدف مساعدة أهلهم، وقد اعتدت شراءها كل عام، وأخرى كتب فيها التلاميذ ملاحظاتهم الدراسية، ثم باعوها، وهي أدنى سعراً، وتلك التي اشتريتها هذا العام، إذ لا تزال هناك الكثير من المستلزمات الدراسية، مثل الحقائب والأحذية والملابس، وسأشتريها من المتبقي من المال الذي أملكه من (جمعية) شاركت فيها لتوفير نفقات الدراسة".
تضيف سمية: "غالبية الناس مضطرة إلى اللجوء إلى الجمعيات لتوفير المال، فالرواتب لم تعد تجدي أمام كلفة مستلزمات المدارس، فضلاً عن النفقات اليومية طوال العام الدراسي، وكل أم تود لو أن موعد استحقاقها لحصتها من الجمعية يحل قبيل موعد دخول المدارس، فمعظم المشتركات في الجمعية أمهات لتلاميذ، وهذا يتسبب في أزمة بالجمعيات".
وبات تدوير "الكتب الخارجية" في الأسواق أحد الحيل الصامدة ضمن محاولات حصول البسطاء عليها، إذ تضاعفت أسعار الجديدة منها في المكتبات، ويقول إسلام أبو الحسن، وهو عامل بإحدى مكتبات شارع الفجالة بوسط القاهرة، لـ"العربي الجديد": "في السابق، كانت الكتب تنفد فور صدورها، وأهلي وأصدقائي كانوا يطالبونني بحجز الكتب لأبنائهم مسبقاً. لكن الإقبال ضعيف هذا العام بسبب تضاعف الأسعار. أحد الكتب الخارجية كان يباع في العام الماضي بنحو 89 جنيها، وصار سعره 145 جنيها".
في إحدى قرى مركز "صان الحجر" بمحافظة الشرقية، يبدو الأمر أخف قسوة، إذ يجري استناداً إلى روابط القربى والجيرة والتعاون بين الأسر. تقول نعمة الله معتمد، وهي طالبة أزهرية: "اعتدنا منح كتب العام الماضي الخارجية الخاصة بأشقائي لجيراننا غير القادرين ممن لهم أبناء سيلتحقون بالصفوف المدرسية نفسها، فبيع الكتب عيب"، مضيفة في حديث لـ"العربي الجديد": "بالطبع يختلف الأمر في المدن، حيث تباع الكتب المستعملة على الأرصفة".
في مدينة الزقازيق، مركز محافظة الشرقية، لم تستطع نسمة، وهي ربة منزل، بأي وسيلة توفير نفقات الأسرة، فاضطرت لشراء عشرة كراسات لابنيها، مع بعض الأغراض المدرسية الأخرى، في مناورة لترحيل الأزمة، وتقول لـ"العربي الجديد": "أجلت الشراء على أمل أن تنخفض الأسعار بعد مرور بداية الموسم الذي يشهد إقبالاً كبيراً على المستلزمات، ما يؤدي إلى قيام التجار باستغلال الإقبال لرفع الأسعار".
بينما لم تجد جارتها آية، وهي مهندسة مدنية، سبيلاً سوى الرضوخ لتعليمات مدرسة ابنها الابتدائية الخاصة، فاشترت كل متطلبات العملية التعليمية، ومن بينها "علبة الطعام"، علاوة على مستلزمات أخرى لم تعرفها طوال فترة تعليمها حتى تخرجها من كلية الهندسة، وتقول لـ"العربي الجديد"، إن كل ذلك ليس المشكلة بالنسبة لها ولزوجها الذي يعمل مهندسا أيضاً، وإنما "الأزمة الحقيقية تتمثل في الدروس الخصوصية التي لا غنى عنها حتى يكون ابني بمستوى أقرانه، وهذه الدروس تلتهم جانباً كبيراً من ميزانية الأسرة الصغيرة".
اضطرت سناء إلى انتظار حلول موعد المعرض السنوي لمستلزمات المدارس الذي تقيمه محافظة الجيزة في حي فيصل الشعبي، غربي القاهرة، كي تستطيع شراء مستلزمات بناتها الثلاث، حملت ما ادخرته هي وزوجها من أموال بعد إلغاء رحلة المصيف هذا العام، تدبيراً لنفقات التعليم. أمام الحقائب المدرسية، فوقفت سناء عاجزة بعدما اكتشفت أن سعرها قفز إلى ضعف ما كان عليه في العام الماضي، فهمست لابنتها التي كانت بصحبتها: "أبلغي إخوتك بأننا سنستعمل حقائب العام الماضي بعد إصلاح ما تمزق منها".
روت سناء لـ"العربي الجديد"، كيف عادت ببناتها بعدما اكتفت بشراء قطع ملابس قليلة. "كنت أود الاكتفاء بملابس العام الماضي، لولا أن البنات يكبرن بسرعة، ولم تعد تناسبهن ملابسهن القديمة"، مشيرة إلى أن حجم الأزمة يتضاعف لديها كون اثنتين من بناتها تستوجب المرحلة الدراسية لهما أن تدفع مصروفات الدراسة مقدماً، فالصغرى ستدخل الصف الأول الابتدائي، والكبرى ستلتحق بالصف الأول الإعدادي.
وتمثل السوق غير الرسمية المتمثلة في باعة الشوارع طوق نجاة لكثير من أولياء الأمور، إذ توفر أسعار المستلزمات الدراسية بأسعار أرخص. وفي جولة سريعة لـ"العربي الجديد" على عدد من الباعة، كانت أسعارهم تقل بنسبة الثلث عن المكتبات، ورغم هذا إلا أنهم يؤكدون قيام المشترين بمفاوضات شاقة معهم للحصول على مزيد من التخفيض.
تحاول السيدة الأربعينية التي تقف أمام بائع على الرصيف بميدان الجيزة أن تشتري ثلاث "زمزميات" مياه بسعر 25 جنيهاً بدلاً من ثلاثين، فيما تشير ملصقات الأسعار إلى أن سعر الواحدة عشرون جنيهاً، تقول: "ليس أمامي حل سوى الفصال (المساومة) مع البائع للوصول إلى أقل سعر".
وباتت المعارض الرسمية، سواء الثابتة في مناطق المعارض، أو المقامة في عربات متنقلة، تنافس باعة الشارع في الأسعار، وتنظمها جهات، منها المحافظات والوزارات. في معرض "أهلا مدارس"، الذي جرى افتتاحه قبل أسبوعين، في حي فيصل بالجيزة، كانت أسعار بعض المستلزمات تقل عن مثيلاتها في المكتبات بنحو 30 في المائة.
في أحد المعارض، كان هشام يكدس مع صديقه كميات كبيرة من الأدوات المدرسية، وعبر متابعة الحوار بينهما، اتضح أنهما يشتريان لأولادهما وأولاد جيرانهما توفيراً لنفقات انتقال الجميع للشراء من المعرض، كما أن شراء كميات كبيرة، والذي يطلق عليه محلياً "بالجملة"، يوفر سعراً مخفضاً مقارنة بالشراء "القطاعي".
الأزمة أكبر دائماً على أولياء أمور طلاب الثانوية العامة، فالعام الدراسي لهؤلاء بدأ فعلياً قبل شهر، إذ التحق الطلاب بالدروس الخصوصية التي يعتمدون عليها بشكل رئيس. يقول أحمد عبد النبي، وهو ولي أمر طالب بالصف الثالث الثانوي، إن "الإرهاق المادي والمعنوي يفوق الصفوف الدراسية السابقة، فهذه السنة تحتاج ميزانية إضافية تعادل أحياناً نفقات الأسرة كلها".
يضيف عبد النبي، وهو موظف بشركة سياحة، أنه جرب المشقة ذاتها مع ابنته قبل عامين، حين كانت الأزمة الاقتصادية أقل حدة، فكان يدفع نحو ثلاثة آلاف جنيه في المتوسط شهرياً للدروس، بخلاف نفقات أخرى مثل الكتب، وتصوير الأوراق، ونفقات التنقل بين مراكز الدروس الخصوصية، ويقول: "يحتاج الطالب للحجز في المركز قبل شهر أغسطس/ آب، وكلفة الدرس الواحد تراوح ما بين 120 و200 جنيه، حسب المادة، وشهرة المعلم، كما دفعت رسوم الالتحاق بالمدرسة التجريبية التي لن يدخلها ابني إلا أياماً معدودة طوال العام، لإنهاء الأوراق والإجراءات، فابني يعتمد على الدروس الخصوصية والكتب الخارجية بشكل كامل".
ويقول شقيقه أدهم عبد النبي إن الكلفة في الجامعات أكبر بكثير من كلفة المدارس، وإنه يدفع نحو 15 ألف جنيه سنوياً للجامعة، وحين رسب ابنه في مادتين دفع مبلغاً إضافياً لإعادة الامتحان فيهما بعدما رفضت إدارة الكلية التظلمات، وهو يرجح أن يكون الأمر مقصوداً، مشيرا إلى أنهم "ربما يتعمدون ترسيب أكبر عدد ممكن من الطلاب كي يضطر أهلهم لدفع مقابل إعادة الامتحان، ما يحقق ربحاً سهلاً للجامعة. سمعنا سابقاً تصريحات رسمية تطالب الجامعات بتحقيق أرباح، وكأنها مشروعات استثمارية، وليست مؤسسات خدمية".