حميد الفيلالي... حرفي ورث سرّ النحاس بفاس ويقاوم اندثاره

30 مايو 2024
يقضي يومه في ورشته بين أدواته (العربي الجديد)
+ الخط -
اظهر الملخص
- حميد الفيلالي، حرفي مغربي في سوق الصفارين بفاس، يعشق النحاس ويخلق منه تحفًا فنية باستخدام تقنيات تقليدية، مواصلاً عمله رغم تقدم العمر وتراجع الإقبال.
- سوق الصفارين يعتبر مركزًا حيويًا للحرفيين، يجذب زوارًا محليين ودوليين لمشاهدة فن تشكيل النحاس واقتناء قطع تحمل جزءًا من التراث المغربي.
- تواجه حرفة النحاس في فاس تحديات مثل تراجع الطلب والمنافسة من المنتجات المستوردة، لكن الفيلالي وزملاؤه يحملون أملًا في استمرارية هذا الفن وتوارثه بين الأجيال.

تربط حميد الفيلابي علاقة قديمة بالنحاس تعود إلى صغره. ورغم كبر سنه وتراجع الإقبال عليه، لا يزال يطرق النحاس تعبيراً عن عشقه لهذه الحرفة.

قابضاً بيديه على صينية نُحاسية يطرقها بحركات متتالية وكأنها معزوفة موسيقية تسلب الألباب تمهيداً لنقشها وصقلها وتلميعها لتصبح بهية الصنع، يعكف الستيني حميد الفيلالي على عمله بتفانٍ ودقّة من داخل ورشته في سوق الصفّارين بمدينة فاس العتيقة وسط المغرب.
الفيلالي الذي غزا الشيب رأسه معروف بين حرفيي النحاس بمدى براعته في تشكيل وزخرفة الإبداعات النحاسية، بالإضافة إلى كونه قضى حوالي ستين عاماً في عمله، وقد اختار الاستمرار في حرفة الأجداد التقليدية رغم كل التحديات المحدقة بها.
يتفنّن هذا الصانع بأنامله الماهرة بحرفية بالغة مُبحراً في عالم النحاس، ومبدعاً تحفاً تدخل البيوت المغربية، وتجد طريقها أيضاً إلى خارج الوطن، سواء داخل المطابخ أو لاستعمالها في التزيين والديكور. يقول لـ "العربي الجديد" وهو يتفقد طلب أحد زبائنه: "في هذا السوق قضيت طفولتي وشبابي، وبين أصوات الأواني النحاسية تشكلت ذاكرتي. هنا أجد راحتي وأمتهن حرفتي بمحبة كبيرة وإخلاص. الناس يعرفونني وعملي يتحدث عني".
ومع بزوغ خيوط الفجر الأولى، يخطو الفيلالي نحو ورشته محافظاً على عادته رغم كبر سنه. ويقول: "أقضي يومي في ورشتي بين أدواتي وأصحابي. معظم الوجوه هنا معروفة ومألوفة. وعلى الرغم من ظروف العمل الصعبة وغزو المنتجات الأجنبية المستوردة، فإنني لا زلت متمسكاً بحرفتي".

"الصفارين"...أنامل ماهرة

في سوق الصفارين في قلب المدينة العتيقة في مدينة فاس، تصطف محلات حرفيي النحاس التي تطرق وتصقل وتنقش الأدوات والأواني المنزلية من صينيات وأباريق وصحون وطناجر ومستلزمات طبخ ومصابيح، مشكلة فضاء سحرياً يعبق بسحر المكان، وفضاء مفتوحاً لحقبة تاريخية هامة جداً تصدح بسمفونية تنبض بالحياة يعزفها حرفيون مهرة بمنتهى الدقة والإبداع.
ويستقطب الصفارون زائرين من داخل الوطن وخارجه، لكونه يتموقع في منطقة استراتيجية في ساحة صغيرة في المدينة القديمة بفاس، بالقرب من مدرسة الصفارين الحاملة لاسم السوق وأقدم المدارس المرينية، وجامع القرويين أحد أهم المعالم التاريخية في المغرب.
لم تستطع سائحة أجنبية إخفاء دهشتها بعد رؤيتها مشهد التلحيم بالنار في ساحة الصفارين المعروفة بهذا الاسم نسبة إلى اللون الأصفر اللامع للأواني النحاسية فيه، فيما صوبت أخرى كاميرتها على الفيلالي الذي كان يدق بمطرقته الحديدية على آنية نحاسية، ويحركها بشكل دائري فوق قطعة خشبية.

قضى الفيلالي سنوات طويلة من العمل في النحاس، منتهجاً الصبر والتعلم منذ أن كان عمره ثماني سنوات، وتدرب بشكل مستمر حتى اكتسب المهارة اليدوية المطلوبة ووقف على كل أسرار الحرفة، ما ساعده على مراكمة خبرة وتجربة واسعة في الطرق والنقش والخرط والتلحيم والتلميع.

النار لتطويع النحاس

وعن مراحل إخراج الإبداعات النحاسية من العدم إلى الوجود، يوضح الفيلالي: "نبدأ أولاً بتفصيل صفائح النحاس إلى قطع وفق الأبعاد والقياسات المحددة، ثم تنقش يدوياً بحسب المطلوب، صينية أو إبريق أو طنجرة أو مقلاة، ويتم ذلك فوق قطعة خشبية تسمى القرطة باستخدام أدوات منها البيكار والنيجام". يتابع: "تعالج القطع النحاسية في محلول للحصول على اللون الأصفر البراق، ثم تضرب بالمطارق الحديدية قصد تطويعها خاصة إذا كانت سميكة، كما أن النار ضرورية في عملنا للتلحيم، وتحديداً في أواني الطبخ الكبيرة".

الصورة
قضى الفيلالي سنوات طويلة من العمل في النحاس (العربي الجديد)
قضى الفيلالي سنوات طويلة من العمل في النحاس (العربي الجديد)

ويستغرق إنجاز قطعة نحاسية واحدة ما بين يومين إلى خمسة أيام، بحسب حجمها والعمل المطلوب عليها. يضيف: "نصنع الصحون وطناجر الطبخ العادية والكبيرة المستخدمة في الأفراح والمناسبات، والصينيات والأباريق المستعملة في إعداد الشاي، ومقالي قلي الطعام وغيرها". ويوضح: "كانت أواني الطبخ الكبيرة سابقاً تُكترى لاستخدامها في الطهي للأفراح بشكل يومي، ما يعود علينا بنفع مادي ومدخول يشجعنا على الاستمرارية. أما الآن فقد أنيطت هذه المهمة بممولي الحفلات الذين سار يعهد إليهم بالمهمة بأكملها".

النحاس بعد الطين

لا يخفي الفيلالي أن حرفة النحاس مثلت مصدر افتخار لأهل فاس، لكونها جاءت بعد المرحلة التي كان يسود فيها الطهي بالطين. يضيف: "اتضح الآن وبعد سنوات خلت قيمة وفائدة هذا المعدن الذي كان من بين أول العناصر التي اكتشفها الإنسان وطوعها لصالحه في استخدامات عدة كما سمعت مراراً على ألسنة زبائني". ويوضح: "حظي النحاس بشعبية كبيرة سابقاً، وكان له حضور واضح في البيوت المغربية، وخصوصاً الأواني النحاسية التي تراجع الإقبال عليها في الآونة الأخيرة".
وعلى الرغم الأمل الكبير الذي يتشبث به هذا الصنايعي، فإنه لا يستطيع إنكار مخاوفه من اندثار هذه الحرفة التي استطاعت أن تصمد لعدة قرون بالمغرب.
وهو الرأي نفسه الذي يؤيده الحرفي الخمسيني عبد العالي الفاسي قائلاً إن "حرفة النحاس تقاوم الاندثار في ظل توقف عدد كبير من الحرفيين عن العمل، وعزوف الشباب عنها، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف إنتاج هذه النحاسيات وغياب الزبائن، وهيمنة الأواني المستوردة على السوق".

الصورة
في سوق الصفارين (العربي الجديد)
في سوق الصفارين (العربي الجديد)

ويتذكر بحنين قبل سنوات كيف كان سوق الصفارين يعج بعشرات الحرفيين الذين كانوا يصنعون ويبيعون أجود الأواني النحاسية التي تستخدم في الطعام والزينة ويأتي لاقتنائها سياح أجانب، لكنه اليوم يعيش على وقع تراجع لا يمكن أن تخطئه العين، وسطوة صناعات مستوردة من عدة دول.
من جهته، يرى الباحث في علم الاجتماع والأنثروبولجيا، يوسف بواتاون، أن حرفة النحاس تواجدت بفاس منذ القديم، وكانت الأدوات المصنوعة في المدينة من النحاس تصدر إلى الخارج كالبرتغال وبريطانيا وغيرهما. أما بالنسبة للمبادلات في النحاس بالمدينة فكانت تتم في سوقين: سوق السكاكي حيث يباع النحاس الجديد، وهو سوق يومي، أما الوحدة المباعة فيه فكانت المثقال، ثم سوق الصفارين وهو سوق يباع فيه النحاس الجديد والقديم ويقام مرة في كل أسبوع.

ويقول لـ "العربي الجديد" إن حرفة النحاس كتنظيم اجتماعي لم تكن فقط مجالاً للإنتاج، بل أيضاً لإبراز هوية الحرفي وتحقيق ذاته فردا داخل الجماعة الحرفية من جهة، وداخل المجتمع من جهة أخرى. ويشير إلى الخصوصيات التقليدية التي كانت تميزها، والتي تشكلت من ثوابتها التاريخية والثقافية المتوارثة من جيل إلى جيل. يتابع: "كان للحرف والصنائع دور كبير في تحريك الدورة الاقتصادية بالمدينة ومحيطها القريب والبعيدة، وانعكست آثارها إيجابياً على الأنشطة والمبادلات التجارية".
لكن رغم هذه الخصوصيات التاريخية والقيمة الرمزية، تجد هذه الحرفة التقليدية التراثية نفسها اليوم تحت وطأة التعديلات والتغيرات الناتجة من تبني أساليب الحياة الحديثة، وفقدان الشباب أي شغف أو استعداد لسبر أغوار عالم يكتوي بنار المشقة والعناء، رغم ارتفاع أصوات الحرفيين الغيورين بضرورة صيانة هذا الموروث من الضياع وحمايته من خطر الزوال.