حصاد الجزائر... ّأدوات تقليدية وأهازيج موروثة تقاوم الاندثار

06 يوليو 2023
يحافظ جزائريون على تقاليد الحصاد المتوارثة (العربي الجديد)
+ الخط -

تفرض طرق الحصاد التقليدية نفسها باعتبارها تراثاً متوارثاً، ضمن كثير من العادات والتقاليد، في كثير من المحافظات الجزائرية، خاصة في المناطق التي تتميز بصعوبة تضاريس أراضيها، والتي تحافظ على قوة التكافل والتضامن الاجتماعي بين ساكنيها، والذي يكون بارزاً في مواسم الحصاد.
في مهنة ورثوها عن الأجداد، لا تزال حرفة "الشوالة" منتشرة في الكثير من المناطق الجزائرية، فرغم أن هذه الحرفة الزراعية القديمة تعتمد على الجهد العضلي والأدوات التقليدية في حصاد المحاصيل، وفي مقدمتها المنجل، فإن كثيراً من الجزائريين يتعلقون بها في المناطق الوعرة والجبلية التي يصعب على آلات الحصاد الوصول إليها، ما يضطر الفلاحين إلى الاستعانة بقوة السواعد والدواب، كما يظهر التضامن والتعاون فيما بينهم، من أجل جمع محصول الحبوب، في ظل مناخ حار وظروف طبيعية قاسية، تخفف من وطأتها تلك الأهازيج والأغاني الشعبية والمدائح الدينية التي يرددها الفلاحون خلال العمل، فضلاً عن انتشار روح المنافسة فيما بينهم، والتسابق على من يتمكن من حصد أكبر كمية من حزم السنابل.

تمتلك عائلة فتاتة قطعة أرض فلاحية في أعالي منطقة الجبابرة بمحافظة عين الدفلى (120 كيلومتراً غربي العاصمة الجزائرية)، ومع حلول نهاية شهر يونيو/ حزيران من كل عام، تستعد العائلة لبدء موسم الحصاد الذي يشارك فيه كل أفراد العائلة، برفقة عدد من أقاربهم وبعض معارفهم، ضمن طقوس الحصاد التقليدي التي تستمر لأيام عديدة، لهكتارات قليلة من سنابل الشعير والقمح والبرسيم، تحوزها العائلة في المنطقة الجبلية التي يصعب وصول آلات الحصاد إليها.
يقول كبير العائلة، محمد فتاتة، لـ"العربي الجديد"، إن "هذه العادة لم تنقطع منذ سنوات طويلة، وقد ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، وتعلمناها منذ كنا صغاراً، وما عدا فترة الأزمة الأمنية في التسعينيات التي تسببت في هجرة سكان المناطق الجبلية، لم ننقطع عن خدمة أرضنا، إذ نجتمع في كل موسم لبدء حصاد ما زرعناه من مختلف أنواع الحبوب، والجميع يشارك في الحصاد، الرجال والنساء والأطفال، ويشارك الأقارب والجيران أيضاً ضمن تقاليد التضامن والتكافل".
يضيف شقيقه رابح فتاتة: "ما يفرض علينا اللجوء إلى الحصاد باستخدام الوسائل التقليدية، مثل المنجل والدواب، هو أن بعض المساحات المزروعة لا تصل إليها آلات الحصاد كونها تقع في مناطق وعرة، لذا نضطر إلى حصدها بالأيدي، ورغم صعوبة ذلك، فإن الحاجة دفعتنا إلى الاعتماد على الوسائل التقليدية التي لا بديل عنها، خاصة أننا نعيش في منطقة تعتمد بشكل كبير على الوسائل التقليدية في ممارسة النشاط الفلاحي، إضافة إلى أننا نحاول جاهدين الحفاظ على تلك العادات المهددة بالاندثار".
وللحصاد التقليدي في الجزائر طقوس وأشكال ووسائل وأهازيج متعددة، ويعد منظومة متكاملة من العمل، إذ يستعمل الحصادون صدرية جلدية وقفازات، وقبعة "مظل"، مصنوعة من الدوم، لتحمي رؤوسهم من لفحة الشمس الحارقة، إضافة إلى المنجل، وهو الأداة الرئيسية في عملية الحصاد.

الصورة
الحصاد التقليدي له تراثه وطقوسه (إدواردو فورناسياري/Getty)
الحصاد التقليدي له أدواته وطقوسه (إدواردو فورناسياري/Getty)

يقول جلول ملياني، وهو فلاح يعيش بأعالي منطقة "وادي جر" في محافظة البليدة (150 كيلومتراً غربي العاصمة الجزائرية)، لـ"العربي الجديد": "ننهض باكراً في هذه الفترة، ونتوجه برفقة الإخوة والأصدقاء إلى الحقول، حيث نبدأ عملية الحصاد، ونعمل على تجميع السنابل معاً، ما يسمى محلياً بـ "الغُمر"، نضعها مع بعض على شكل مجموعات كبيرة، كل ذلك بينما نقوم بترديد أغان قديمة عبارة عن أشعار محفوظة تتعلق بالحصاد والبيئة، ثم نشرع في الصلاة والسلام على الرسول كي يغيثنا الله بنسمة هواء باردة منعشة تخفف علينا حرارة الشمس".
يضيف ملياني: "بعد حصاد السنابل وتجميعها معاً على الأرض، نقوم بجمعها بواسطة قاطرات الجرارات بعد الحصاد، وحملها إلى مكان (الدرس) الذي يعرف بـ(الرحبة)، وفي بعض الأحيان نعتمد على الحمير أو البغال في النقل، وبعد نقلها إلى الرحبة تترك لتجف، ثم يجري الدرس، ونستخدم الرياح لتصفية الغلة، ثم نخصص كمية من الحبوب للزكاة، وتجمع بقية الحبوب في أكياس نخزنها في أماكن مخصصة لذلك، أو نحولها إلى المطاحن العمومية القريبة".
تتكرر مشاهد الحصاد ونقل السنابل والدرس بالطرق التقليدية في جميع المحافظات الجزائرية المعروفة بتضاريسها وطبيعتها القاسية، ومن بينها غيليزان، والبيض، وتيسمسيلت، والجلفة، وعين الدفلى، حيث تفرض الطبيعة على العائلات الحفاظ على العادات الخاصة بالحصاد التقليدي، وبالتالي على الأهازيج المصاحبة له.
وفي الغالب تكون عملية الحصاد الجماعي ممزوجة بأغان شعبية، إذ يردد الحصادون على سبيل المثال، طقطوقة "صلوا على محمد. صلوا عليه وزيدوا. جميع من ذكر محمد. يا رب بالخير تزيدوا"، وتقول طقطوقة أخرى "يا مشعشع الأرض البيضة. يا مغذيها بالأمطار. لا تخيل على نبينا. لا تعذب أحد بالنار".

ويعتبر الباحث المختص في التراث الجزائري، عبد الحليم مصطفى، أن الحصاد التقليدي والأهازيج المصاحبة له تعبر عن عمق الموروث الثقافي الشعبي للمجتمعات المحلية، ويقول في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن "هذه الأهازيج الغنائية المتوارثة جيلاً بعد جيل تعبر عن بعض التفاصيل الاجتماعية لهذه المجتمعات، كما تروي بعض القصص أو الوقائع أو المواقف، ويمكن أن تعبر عن التكافل الاجتماعي الذي لا تزال تحافظ عليه كثير من المناطق الجزائرية".
ويضيف مصطفى أن "استمرار مزارعي المناطق الجبلية في الحفاظ على هذه التقاليد خلال فترات الحصاد وجمع المحصول الزراعي، يعبر عن قوة الشخصية، ويظهر تمسّكهم بأرضهم، خصوصاً بالنسبة للعائلات التي هجرت قراها ومداشرها نحو المدن خلال (العشرية السوداء)، والتي عادت إليها من جديد، والأهازيج الخاصة بالحصاد التقليدي هي جزء من التراث غير المادي للجزائريين، والذي يعبر عن ارتباط الفرد بتاريخه وثقافته المحلية، على الرغم من كل التغيرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع خلال السنوات الأخيرة".

المساهمون