في قريته الوادعة شرق بيروت، اعتاد الياس نعيمة، أن يقطف 16 طناً من أكواز الصنوبر، لكن محصوله هذا العام بالكاد لامس مئة كيلوغرام، بعدما قضت حشرات تفتك بغابات "الذهب الأبيض" على إنتاجه. وفي حين يرتبط اسم لبنان عادة بغابات الأرز المعمّرة في جباله، يعادل غطاء الصنوبر فيه عشرة في المائة تقريباً من مساحة الغابات.
في غابة القصيبة في جبل لبنان، يعاين نعيمة أشجاراً عملاقة. يتوقف عند واحدة يبس جذعها، وأخرى تساقطت مخاريطها قبل أن تصبح أكوازاً. ويقول لوكالة فرانس برس: "كان إنتاجي يعادل 16 طناً من أكواز الصنوبر، أما اليوم فبالكاد يلامس مئة كيلوغرام". وكان إنتاج 600 كيلوغرام من حبوب الصنوبر البيضاء يدرّ له دخلاً يتجاوز أربعين ألف دولار. أما اليوم فلا مدخول يذكر. وجراء تراجع الإنتاج، شهد سعر الصنوبر الأبيض، الذي يستخدم في تحضير الحلويات خصوصاً، ارتفاعاً تدريجاً، تجاوز معه ثمن الكيلوغرام المليون ليرة، أي قرابة ضعفي الحد الأدنى للأجور في لبنان. ويعود تراجع الإنتاج بشكل رئيسي إلى تفشي حشرة دخيلة، انتقلت من القارة الأميركية إلى أوروبا، ثم وصلت إلى تركيا العام 2010. ولاحظ المزارعون منذ العام 2012 تراجع الإنتاج تدريجاً، قبل أن تُرصد الحشرة بالعين المجردة في 2015.
ويشرح الأستاذ الجامعي والباحث في علم الحشرات وبيئة الغابات، نبيل نمر، لوكالة فرانس برس أنّ الحشرة المعروفة باسم بقّ الصنوبر "مؤذية جداً"، وباتت موجودة حالياً في مجمل غابات الصنوبريات، لكنّ ضررها الأكبر على الصنوبر المثمر، كون أكوازه وجبة دسمة لها. وتسحب الحشرة، وفق نمر، بمنقارها محتويات حبوب الصنوبر السوداء بنسبة قد تصل إلى 90 في المائة. ويقول نمر: "لاحظنا أحياناً وجود أكثر من عشر حشرات على الكوز الواحد". وعندما تهاجم الحشرة الأكواز الصغيرة "تتسبّب بيباسها كلياً وتسقط على الأرض". ويلعب التغيّر المناخي دوراً في تكاثر الحشرات. ويقول نمر: "تساهم الحرارة المرتفعة مع كمية متساقطات أقل بتغيير دورة حياة الحشرات وتضعف الأشجار".
مبيدات
تعاني دول أخرى تنتشر فيها أشجار الصنوبر الأزمة ذاتها، لكن في لبنان الغارق في أسوأ أزماته الاقتصادية، لا تشكل مكافحة الحشرة أولوية للجهات الرسمية المعنية. وبما أنّ موطن الحشرة هو القارة الأميركية، فإنّ "أعداءها الطبيعيين (أي الحشرات القادرة على القضاء عليها)"، وفق نمر، "لم تأت معها، ما قد يتطلب عشرة أو عشرين عاماً حتى تعتاد الحشرات الموجودة هنا عليها". في الانتظار، المتاح حالياً، كما يوضح نمر، هو "رشّ مبيد حين تكون الحشرة على الشجرة"، شرط "ألا يدخل إلى داخل الأكواز لئلا يسبّب مشاكل في التصدير والسلامة الغذائية".
في أحراج تمّ رشها، لمس المزارعون تحسّن الإنتاج في الموسم اللاحق، وفق ما يشرح إلياس نعيمة، وهو نقيب مزارعي الصنوبر المثمر. ويقول: "تحسّن الإنتاج موسم 2016- 2017 بعد رشّ المبيد، جرّاء انخفاض يباس المخاريط بنسبة 30 في المائة، بعدما تراوح بين 85 وتسعين في المائة قبل الرشّ". لكنّ عدم القدرة على الرشّ سنوياً في كلّ الأحراج المتضرّرة وتفشي الحشرة بشكل أكبر، في غياب سياسة مكافحة عامة، أدّى إلى تراجع الإنتاج الكلّي بشكل لافت. ويقول نعيمة: "نريد من الدولة فقط أن تساعدنا في عملية المكافحة (..) ليس لدينا اليوم أكثر من مئتي طن على صعيد لبنان" بعدما كان الإنتاج يقدّر بـ1200 طن سنوياً، ويوفر دخلاً يصل إلى 130 مليون دولار.
"سنجد حلاً"
في بلدة بكاسين جنوباً، حيث توجد أكبر غابة صنوبر مثمر على مساحة متصلة في الشرق الأوسط، (100 ألف شجرة على مساحة 220 هكتارا)، تعاني الأشجار من تفشي حشرة بقّ الصنوبر، وكذلك من تداعيات انتشار حشرة أخرى من فصيلة الخشبيات، تٌعرف وفق نمر باسم خنفساء الصنوبر وتتغذى تحت قشرة الشجرة، قبل أن تكمل دورة حياتها على الطرابين الجديدة، وتؤدي إلى يباسها. وتتكاثر خصوصاً في "الغابات المنسية" التي لا يتم الاعتناء بها. ويقول حبيب فارس، رئيس بلدية بكاسين التي تعود لها ملكية الغابة، لوكالة فرانس برس "آخر إنتاج معتبر كان العام 2013، ثم بدأت الكمية تتناقص.. تراجع إنتاجنا بنسبة سبعين في المائة". وانسحب ذلك على أرباح البلدية التي بلغت 500 مليون ليرة العام 2013.
تقف بلدية بكاسين عاجزة أمام المشكلة المتمادية، فيما تقلّص وزارة الزراعة من حجم دعمها سنوياً على وقع الانهيار الاقتصادي. ويقول فارس إنّ "الموضوع أكبر بكثير من قدراتنا". ويشرح: "نحاول في كل عام أن نرشّ مساحة معينة من الغابة، لكن المشكلة أنه إذا اقتصر الأمر على مساحة معينة، فثمة إمكانية أن تعود الحشرة إلى المكان الذي تم رشّه" العام المقبل. ورغم أنّ وزارة الزراعة تقدم دعماً لرشّ المبيدات وصيانة الغابات، لكنه ليس كافياً. ويناشد فارس "الجهات الدولية المانحة مساعدتنا على صيانة الغابة".
بين أشجار يتجاوز طول بعضها 40 متراً، يتجوّل مارون عزيز، الرئيس السابق للجنة غابة بكاسين في البلدية، آسفاً لما آل إليه وضع الصنوبر جراء الإهمال وغياب الرعاية الرسمية. ويقول لوكالة فرانس برس: "الشجرة التي أصيبت باليباس يجب أن يتم استئصالها لأنّ الحشرة ستنتقل منها بعد أن ينتهي الغذاء إلى شجرة مجاورة". وانطلاقاً من أنّ آلاف العائلات تعتاش من الصنوبر، يشدّد نمر على ضرورة تضافر الجهود للحدّ من الأشجار المصابة. ويقول: "يعيش المجتمع المحلي حالة اقتصادية صعبة جداً"، محذراً من أنّ المزارعين "قد يتركون غاباتهم إذا استمر الوضع على ما هو عليه"، ما قد يهدد استدامة الغابات. ويضيف: "الصنوبر في لبنان معروف بأنه الذهب الأبيض، لذا يجب أن نجد حلاً".
(فرانس برس)