مع دخول الحملة التي أطلقها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، لإزالة وهدم كل مشاريع البناء المشيّدة على أراضٍ تملكها الدولة، أسبوعها الثالث على التوالي، تتواصل المواجهات بين فرق وكوادر تابعة لبلديات المدن الرئيسية والأهالي أو جماعات مسلحة أحياناً، ما دفع الحكومة إلى ضم وحدات من الجيش والشرطة إلى فرق البلدية خلال تنفيذها القرارات التي تصبّ أيضاً في إطار فرض هيبتها في الحكم، واستعادة ثقة الناس بقدرتها على ضمان حقوق الدولة وحقوقهم بعيداً عن ضغوط الخضوع للفوضى والمحسوبيات، وأنواع مختلفة من الممارسات غير الشرعية.
وأطلقت الحملة إثر قتل صاحب مبنى مشيّد على أملاك تابعة للدولة مدير بلدية كربلاء، جنوبي بغداد، عبير سليم الخفاجي، بعدما أطلق النار عليه خلال إشرافه على هدم المبنى. وأثار الحادث ردود فعل شعبية غاضبة دفعت الكاظمي إلى زيارة موقع الحادث وإعلان بدء الحملة، لكن فقراء العراق يخشون هدم منازل بنوها بطريقة عشوائية بسبب عدم توافر بدائل لهم، رغم أن مسؤولي الحملة يصرّون على أنها لن تمسّهم، بل ستستهدف تحديداً التعديات التي يقف وراءها سياسيون وزعماء فصائل كبيرة، ويتعمدون فيها إهانة القانون والدولة.
شرارة الخفاجي
يوضح علي الموسوي، المسؤول المحلي في مدينة كربلاء، لـ"العربي الجديد" أن "الراحل الخفاجي أطلق حملة إزالة التجاوزات مطلع العام الجاري، في إطار تحرك سنوي لا يهدف إلى محاربة الفقراء الذين أجبرتهم الظروف على ارتكاب تجاوزات، بل أولئك الذين استغلوا ضعف القانون وبنوا أسواقاً ومحلات تجارية ومعامل ومحميات ومزارع واستراحات في مناطق تقع عند أطراف المحافظة". ويشير إلى أن "تنفيذ هذه العمليات اتخذ منحى أكثر تشدداً وصرامة إثر مقتل الخفاجي، وإعلان الكاظمي تمسكه بمتابعتها، والتعامل مع كل الصعوبات المرتبطة بوضعها قيد التنفيذ وإنجاحها".
يضيف: "أبلغ الكاظمي المسؤولين في كربلاء أن الحملة ستشمل كل المحافظات بهدف إزالة تجاوزات البناء المرتكبة في أماكن عامة ومخالفات الاستيلاء على أراضٍ، وتحويل أخرى زراعية أو خضراء إلى مساكن تمهيداً لبيعها وتحقيق مكاسب مالية كبيرة، وأيضاً لإنهاء مظاهر العشوائيات".
ضرورة تطبيق القانون
يكشف عضو مجلس محافظة البصرة، نشأت المنصوري لـ"العربي الجديد" أن "كل محافظات العراق تضم عشوائيات تتشكل من منازل ومحال تجارية، وتحتاج إلى تدخل حكومي جدي لمنع استمرار التخريب شرط توفير بدائل للفقراء، ومنع ذوي النفوذ من مواصلة تجاوزاتهم، حتى لو وصل الأمر إلى التصادم معهم، فمن الضروري تطبيق القانون على الجميع".
يتابع: "تتواجد منازل مشيّدة من طين وصفائح حديد أو حتى إسمنت وبلا ترخيص على أراضٍ تابعة للدولة أو يملكها أفراد، علماً أن جهات ذات نفوذ استطاعت خلال السنوات الماضية الاستيلاء على مقار مهجورة ودوائر حكومية قديمة تابعة للدولة، واحتلتها بلا مسوغ قانوني".
عراقيل "حزبية" في بغداد
تتعدد في العاصمة بغداد "التجاوزات" على مقار شركات ومصانع قديمة ومنشآت سابقة للجيش العراقي وحزب البعث وأجهزة أمنية أخرى جرى حلها بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وتستخدم فصائل مسلحة بعض هذه المقار كمراكز لنشاطاتها السياسية، في حين جرى تحويل بعضها حتى إلى حظائر لتربية مواشٍ، بحسب ما يؤكده مسؤول في أمانة بغداد، رفض الكشف عن اسمه.
ويبلغ المسؤول "العربي الجديد" أن "الحملة ستغطي كل مناطق بغداد التي سيجري تنظيفها وتطهيرها من التجاوزات والمتجاوزين خصوصاً في المناطق الشعبية مثل ضاحية الصدر والشعب والحسينية، وصولاً إلى المناطق الراقية مثل المنصور والحارثية، لكن تدخلات حزبية تعرقل جهود البلديات التي تعمل بالتنسيق مع السلطات".
ويوضح أن "العمليات تحصل في 6 دوائر بلدية ببغداد، تنفيذاً لبرنامج وضعته أمانة العاصمة من أجل إعادة فتح الطرق بعد إزالة التجاوزات فيها، وتحويل ساحات استولى عليها حزبيون ذوو نفوذ إلى حدائق وملاعب".
"ثقافة" التعديات
من جهته، يعتبر عضو لجنة الخدمات والإعمار في مجلس النواب العراقي إحسان العوادي في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "قتل الخفاجي فضح مدى استقواء مواطنين كُثر وجهات حزبية مستفيدين من انفلات الوضع وضعف السلطات، على الحكومة وقراراتها، ما جعل التعديات ثقافة سائدة في السنوات الماضية، والتي اتسعت إلى استيلاء جهات سياسية على شوارع وأزقة بكاملها، علماً أن عصابات منظمة طردت أحياناً عائلات كانت تعيش في أمان واستقرار من أجل الاستحواذ على أملاكها، وصادرت بالتعاون مع أحزاب أراضي تابعة للحكومة ووزاراتها. والحقيقة أن حوادث مماثلة لمقتل الخفاجي حصلت، لكن الإعلام أهمل تغطيتها، وتعمّد التستر على وقائعها".
ويشير إلى أن "القسم الأول من المعتدين على أملاك الدولة وأراضيها فقراء معدمون أجبرتهم ظروف الحياة على بناء منازل ومحال تجارية صغيرة من أجل ضمان لقمة عيشهم، في وقت تجاهلت الحكومات توفير مساكن لائقة بهم أو أكشاك تعينهم في العيش. أما القسم الثاني فيشمل أصحاب نفوذ استغلوا الأراضي الحكومية لفتح مولات ومشاريع تجارية كبيرة. والأكيد أن مصالح هذه الجهات ستتضرر بشكل كبير إذا استمرت الحملة ضد التجاوزات".
وسبق أن نفذت حكومات محلية في بغداد وبلديات تابعة لمحافظات أخرى حملات لهدم التجاوزات والعشوائيات، وبينها المحال التجارية المنتشرة في الشوارع وأكشاك بُنيت على الأرصفة، لكنها اصطدمت غالباً بنفوذ أحزاب تسيطر على المناطق، وفصائل مسلحة تستفيد من الفوضى القائمة في تحصيل رسوم من المتجاوزين في مقابل توفير حماية لهم. كما وعدت أمانة بغداد وإدارات في مدن وسط وجنوب العراق خلال السنوات الماضية بتوفير أكشاك للمتجاوزين شرط تنظيم عملهم، إضافة إلى منازل منخفضة الكلفة لإنهاء التعديات على المساكن، لكن هذه الوعود لم تسلك طريق التنفيذ بسبب تفشي الفساد.