حبوب الغاز... وسيلة انتحار شائعة في الشمال السوري

26 اغسطس 2023
أسباب متعددة تدفع السوريين إلى الانتحار (دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -

لا تتجاوز نسبة النجاة في حال تناول "حبوب الغاز" الخمسة في المائة، ما جعلها وسيلة الانتحار الأكثر شيوعاً في مناطق شمالي سورية، والتي سجلت خلال السنوات الأربع الماضية عشرات حالات الانتحار، اعتمدت غالبيتها على تناول هذه الحبوب. 
و"حبوب الغاز" أو "حبوب الغلة" كما يطلق عليها شعبياً في الشمال السوري، هي أقراص تُستخدم كمبيد حشري من أجل حفظ الغلال المختلفة من التسوس، إلا أنها باتت تُستعمل كوسيلة للانتحار. يقول الطبيب البيطري أحمد حاج يوسف، إن تلك الحبوب تُستخدم لتعقيم المنتجات الزراعية، وتتكون من مادة فوسفيد الألمنيوم التي يخرج منها غاز الفوسفين عالي السمية، والذي لا يتوفر له مضاد أو ترياق. 
ويشير حاج يوسف إلى أن القرص الواحد يحتوي على ما بين ربع غرام إلى غرام واحد من الفوسفين، ولا تتجاوز نسبة النجاة بعد تناوله 5 في المائة. وفي حال النجاة من الموت، يعاني الناجي من أحد أنواع الإعاقة الدائمة. بمجرد التعرض للهواء الرطب أو التفاعل مع عصارة المعدة، يبدأ مفعول الحبوب، ويؤدي إلى تلف الخلايا، ويتسبب في انهيار الميتوكوندريا (بمثابة مولدات الطاقة الموجودة بمعظم الخلايا)، ما يؤثر على الدورة الدموية، بالإضافة إلى تسمم الكلى والكبد وفشل القلب".

ويحدث التسمم بهذه المادة إما عن طريق البلع أو الاستنشاق، ويؤثر الغاز بصورة مباشرة على العصيات المسؤولة عن إنتاج الطاقة ما يؤدي إلى توقف عمل العديد من الإنزيمات، كما يؤثر على عملية الفسفرة التأكسدية، وهي مسار استقلابي يستخدم الطاقة الناتجة عن الأكسدة للمواد الغذائية لإنتاج أدينوسين ثلاثي الفوسفات ATP. 
ويوضح حاج يوسف، أن "الأعراض التي يشعر بها من تناول المادة أو استنشقها تشمل الغثيان والقيء والإسهال والصداع والمغص، وتتطور بعد ذلك إلى ضيق في التنفس، والشعور بثقل في الصدر، وسعال، وإرهاق عام، وضعف في العضلات وعدم قدرة على التركيز، مع احتمال حدوث تشنجات عصبية، ويجب على الأطباء الإسراع في اتخاذ جميع الإجراءات والإسعافات، ومنها غسيل المعدة، وإجراء تحاليل وصور، ومراقبة وضع المريض. لكن في حال النجاح في إنقاذ حياته، سيعاني الشخص من التهاب دماغي قد يؤدي إلى الشلل، أو فقدان النطق، أو الإصابة بقصور كلوي، وتعطل عمل جزء من الكبد".
ونظراً لتوفرها في الأسواق بأسعار رخيصة، شاع أخيراً استخدامها بهدف الانتحار، وهي متوفرة بنوعين، الأول صغير الحجم مستورد من الصين وعياره 56 غراماً، وتحتوي العلبة الواحدة على 1666 حبة بوزن كيلوغرام، ويُعرف باسم "بيستوكسين"، أما الثاني المعروف تجارياً باسم "فيستوكسين"، فيعبأ ضمن مواسير، وتحتوي كل ماسورة على 20 حبة وتزن كل حبة 3 غرامات، ويكون حجمها كبيراً وتأتي بعيار 57 غراماً لكن تركيزها أعلى وأقوى. أما مصدر هذه الأنواع فإما صيني أو هندي، وعادة ما تكون أسعار الصيني أغلى من الهندي ومرغوبة من قبل الزبائن بسبب جودته. وتدخل هذه الحبوب إلى الشمال السوري عن طريق باب الهوى بواسطة شركات محلية، وتباع في الصيدليات ومحال المواد الغذائية. 
ويذكر حاج يوسف أن سلطات الأمر الواقع منعت بيع حبوب الغاز في المحال التجارية ومحال المواد الغذائية، وحصرته بالصيدليات فقط، مضيفاً أنها تسيّر دوريات الرقابة التموينية لتفتيش المحال، وقد ضبطت مخالفات عدة وأحيل مرتكبوها إلى لجنة مختصة. ويقول: "أصدرنا قراراً بمنع تداول حبوب الغاز حتى لا تُستخدم في غير مكانها، ووضعنا خطة لهذا الأمر، ونقوم الآن بتنفيذها وقد حققنا نتائج جيدة".

الصورة
تستخدم الأقراص لتعقيم المنتجات الزراعية (لؤي بشارة/ فرانس برس)
تستخدم الأقراص لتعقيم المحاصيل الزراعية (لؤي بشارة/فرانس برس)

ويؤكد الطبيب البيطري السوري على أهمية الحد من تداول هذه الأقراص من خلال فرض السلطات المحلية رقابة شديدة على بيعها في غير الصيدليات، وحصرها بالمزارعين بعد تدوين أسمائهم وأرقامهم بموجب إيصال بيع معتمد، لافتاً إلى أن سعرها الرخيص يجعلها سهلة التداول، إذ يبلغ سعر العلبة التي تزن كيلوغراماً وتحتوي على 350 قرصاً نحو 10 دولارات.
بدوره، يقول المهندس الزراعي علاء الخليل، لـ "العربي الجديد"، إن هذا النوع من المبيدات محظور تصنيعه في العديد من دول العالم، خصوصاً الدول الأوروبية، لكن تصنيعه شائع في الصين والهند، لافتاً إلى أنه متوفر في غالبية الدول، ويُستخدم في مكافحة انتشار الآفات الحشرية في محاصيل الحبوب مثل القمح والشعير والذرة، بالإضافة إلى تعقيم مستودعات الحبوب للقضاء على الحشرات، مثل ثاقبات الحبوب الصغرى (حشرات المخازن)، وخنفساء أوراق الحبوب، وفراشة الحبوب والدقيق، كما تُستخدم للقضاء على القوارض.
يضيف أنه "لا يتم استخدام هذا المبيد إلا من قبل أشخاص متخصصين يعرفون كيفية استعمالها"، مشيراً إلى اتباع إجراءات معينة خلال عملية تعقيم المستودعات، منها وضع القفازات والكمامات والنظارات وارتداء ملابس عازلة. كما نغلق المستودعات بشكل تام. فعند إلقاء الأقراص على الأرض تتفاعل مع الهواء الرطب نسبياً، وهذا التفاعل يولد غاز الفوسفين الذي يؤدي إلى تسمم الإنسان والحشرات والحيوانات الثديية الأخرى".

الصورة
يجب إبقاء الأقراص بعيدة عن متناول الأطفال (رامي السيد/ Getty)
يجب إبقاء الأقراص بعيدة عن متناول الأطفال (رامي السيد/ Getty)

يتابع الخليل: "هذا المبيد متوفر وموجود في الصيدليات الزراعية والبيطرية، لأن المزارعين وتجار الحبوب يحتاجونه ويستخدمونه في تعقيم محاصيلهم. كما يطلبه أصحاب الأفران ومستودعات الطحين". ويشير إلى أن بعض ربات البيوت يستخدمنه لحفظ المونة في المنازل، على الرغم من خطورة استخدامها في المنازل، وخصوصاً أن كثيرين لا يعرفون ماهية هذا المبيد وكيفية استخدامه. هذه العشوائية ترتبط بتوفره بسعر رخيص في المحال التجارية. يجب حصر استخدامه بالفنيين الزراعيين أو الوحدات الإرشادية الزراعية"، مشيراً إلى أنه محظور صورياً فقط. 
من جهة أخرى، يقول المتخصص في العلاج النفسي ماجد فهيم، لـ "العربي الجديد"، إن الخلل في العلاقات الأسرية والزوجية، وغياب الدعم الاجتماعي، والبطالة، وسوء الأوضاع الاقتصادية، وإدمان الكحول والمخدرات، والأزمات والضغوط النفسية المفاجئة، وكثرة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، كلها عوامل تشجع على الانتحار، فضلاً عن ظروف الحرب والنزوح ومشاهد القتل والتعذيب والدمار. وفي ظل غياب الرقابة على الأطفال، يسهل الحصول على المواد المخدرة وبالتالي الإدمان، الأمر الذي قد يقود إلى الانتحار.
ومن بين حوادث الانتحار التي سُجلت أخيراً في ريف إدلب بواسطة استخدام حبوب الغاز، يتحدث الناشط محمد المعراوي لـ "العربي الجديد"، عن انتحار امرأة نازحة تقيم في مدينة معرة مصرين في ريف إدلب الشمالي، بعدما تناولت حبة غاز. يضيف: "سُجل الكثير من حالات الانتحار باستخدام حبوب الغاز في منطقة شمال غرب سورية"، لافتاً إلى أنها وسيلة سهلة المنال يمكن لمن يفكر بالانتحار استخدامها من دون أن يتنبّه له الأشخاص المحيطون به". يضيف: "يجب أن تكون هناك رقابة مشددة أو منع استيراد لهذا النوع من المبيدات، على اعتبار أن فرص نجاة من يحاول استخدامها بالانتحار شبه معدومة، على خلاف وسائل أخرى قد تلفت الانتباه".

يشار إلى أن فريق "منسقو استجابة سورية" سجّل 88 محاولة انتحار في مناطق شمالي سورية خلال عام 2022، منها 33 محاولة فاشلة، في مقابل 25 محاولة انتحار فقط خلال عام 2021.
وتشير الإحصاءات إلى أن أعداد المتوفين حول العالم بسبب تناول المبيدات الحشرية يتراوح ما بين 250 و370 ألف شخص، وأنها كانت المسؤول الأول عن ثلث حالات الانتحار في جميع أنحاء العالم في عام 2018. ويحذر الأطباء والمختصون بالمبيدات من تواجد حبوب الغلة في المنازل، خصوصاً في حال وجود أطفال في المنزل، إذ يمكن أن يبتلعها الأطفال عن طريق الخطأ، وقد تؤدي إلى وفاتهم على الفور. 
وفي عام 2021، أعربت منظمة "أنقذوا الأطفال" الدولية، عن قلقها الشديد تجاه الارتفاع الحاد في أعداد محاولات الانتحار  في مناطق شمال غربي سورية، وخصوصاً بين الأطفال، موضحة أن واحدة من كل خمس محاولات انتحار مسجلة هي لأطفال.

المساهمون