جنوب لبنان... يوميات رعب جدار الصوت وخطر الاغتيالات

14 اغسطس 2024
الحياة مستمرة في صور، جنوبي لبنان (حسين بيضون)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **التعايش مع جدار الصوت والاغتيالات**: يعيش اللبنانيون، خاصة في الجنوب، على وقع أصوات جدار الصوت والاغتيالات بشكل شبه يومي، مما يزيد من حدة القلق والتوتر. هذه الغارات الوهمية تأتي في إطار الحرب النفسية التي تعتمدها إسرائيل منذ بدء الاشتباكات مع حزب الله.

- **ردود الفعل والتكيف النفسي**: تختلف ردود فعل اللبنانيين؛ البعض يواصل نشاطه اليومي بشكل عادي، بينما يتخذ آخرون تدابير احترازية. الأطفال يتأثرون بردود فعل أهلهم، والمعالجة النفسية شارلوت الخليل تشير إلى أن التكرار يقلل من درجة الخوف.

- **التحديات النفسية والاجتماعية**: رغم التكيف الظاهري، يعاني الكثير من اللبنانيين من الضغط النفسي والتعب. من المهم أن يواصل الأفراد الاهتمام بأنفسهم وتقديم الدعم لمن حولهم، لأن هناك من يحتاج إلى دعم اجتماعي ونفسي.

يعيش اللبنانيون بشكل شبه يومي، وخصوصاً في جنوب لبنان، على وقع أصوات جدار الصوت والاغتيالات، الأمر الذي يزيد من حدة القلق والتوتر لديهم. مع ذلك، فقد اعتاد البعض الأمر ولا ينوي المغادرة.

تختلف تجارب اللبنانيين مع خرق طيران الاحتلال الإسرائيلي لجدار الصوت، وخصوصاً في المناطق الجنوبية، حيث يدوي بعنفٍ ويؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى ارتجاجٍ المباني وتحطيم زجاج نوافذ المحال والمنازل والمؤسسات التجارية. قسمٌ من الجنوبيين اعتاد المشهد، وخصوصاً أنهم يعايشون الخروقات الإسرائيلية للأجواء اللبنانية منذ عقود قبل بدء الاشتباكات في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وباتوا يميّزون بين جدار الصوت والقصف الصاروخي المدفعي، ومنهم من يهلّل له ويواصل نشاطه بشكلٍ طبيعيٍّ سواء في العمل أو المقهى أو البحر. في المقابل، ينتاب البعض حالة من الهلع والقلق لبعض الوقت، وهو ما بات يؤثر على استقرارهم النفسي.  
هذه الغارات الوهمية وخروقات جدار الصوت تأتي في خضم الحرب النفسية التي تعتمدها إسرائيل منذ بدء الاشتباكات مع حزب الله، وزادت نسبتها خلال الفترة الماضية لترويع الناس وإخافتهم، ووسّعت من رقعتها أخيراً لتشمل العاصمة بيروت والمناطق الساحلية، وأصبحت من يوميات اللبناني لا بل تحوّلت إلى مادة للمزاح لدى قسم كبير من المواطنين الذين ينتظرون الخرق نهاراً.
في مدينة صور جنوبي لبنان، بات المشهد شبه طبيعي للكبار والأطفال، وقد اعتادوا يومياً سماع جدار الصوت. يرتادون الشاطئ ويشاهدون الغارات الإسرائيلية على أطراف القرى الحدودية، ويواصلون نشاطهم بشكل عادي، لثقتهم على حد تعبيرهم بأنّ الحرب لن تتوسّع والمنطقة ستبقى بعيدة عن الاشتباكات. في المقابل، لا يخفي الأهالي الخوف من الاغتيالات، التي زادت خلال الفترة الماضية، والتي تطاول قادة في حزب الله وفصائل مسلحة أخرى، وتشمل مناطق خارج قواعد الاشتباك، شمل قضاء صور، الأمر الذي دفع المواطنين إلى أخذ الحيطة والحذر من السيارات المارة والدراجات النارية بشكل خاص، التي تعدّ بالدرجة الأولى عرضة للقصف.
"اعتدنا على جدار الصوت"، يقول سعيد صفدي، هو الذي عايش الحروب اللبنانية وأصرّ على البقاء في أرضه وداره وبين ناسه وأهله. يجلس في محلّه ويعمل طوال اليوم رغم قلّة الزبائن، ويبقى بابه مفتوحاً رغم الخطر الأمني وأصوات المسيّرات والقصف في المناطق المحيطة. ويقول: "اعتدنا على جدارات الصوت أكثر من مرة في اليوم. ماذا نفعل؟". 

اعتاد العديد من اللبنانيين في الجنوب على جدار الصوت (حسين بيضون)
اعتاد العديد من اللبنانيين في الجنوب على جدار الصوت (حسين بيضون)

من جهة أخرى، لا يخفي سعيد قلقه من الاغتيالات إذ "لا أحد يعلم من يريد العدو أن يستهدف. لذلك، أتخذ بعض الإجراءات ومنها تخفيف السرعة والبقاء على مسافة معينة من السيارات والدراجات النارية". رغم ذلك، يشدد على أنه لا يفكّر أبداً في المغادرة، "فهنا رزقي وبيتي ولن أغادر إلا في حال هبطت الدنيا فوق رؤوسنا". الأمر نفسه ينسحب على أنطوان بشواتي، الذي يتحدث عن كثافة جدارات الصوت والمسيّرات التي تحلّق في الأجواء على علوّ منخفض. ويقول إن البغض يخاف فعمد إلى مغادرة المدينة، فيما اعتاد البعض الأمر". ويقول: "الناس ترتاد الشاطئ. عندما يسمعون جدار الصوت، يبدأون بالتصفيق، ما يعني أن هناك من اعتاد اجمالاً على هذه اليوميات، وهناك من خاف فاضطر إلى المغادرة". 

وعلى غرار سعيد، يتخذ أنطوان إجراءات خوفاً من الاغتيالات، ويأخذ حذره عندما يقود سيارته على الطريق، ويحرص على أخذ مسافة بينه وبين دراجات نارية أو سيارات معينة إذ إن "الخوف أمرٌ طبيعيٌّ في هذه الحالة، والوضع يحتّم الخوف، وخصوصاً أننا لا نعرف متى يستهدفون أية شخصية". لا يفكر بالنزوح، هو الذي عاش الكثير من الأحداث في صور، كما أنه لا يفكّر أبداً في المغادرة. ويسأل: "إلى أين سنذهب؟ الأفضل أن نبقى في بيوتنا". 
من جهته، يقول محمود سماحي إن المشهد يختلف بين شخص وآخر؛ فهناك من يخاف للحظات ثم يهدأ، وهناك من أصبح معتاداً على الأمر، وخصوصاً أنه شبه يومي. لكنه يلفت إلى أن الأطفال عادة هم من يخافون ونسمع صراخهم أحياناً ثم تعود الأمور إلى طبيعتها. محمود أيضاً يتخذ تدابير احترازية لدى سيره على الطريق، "فلا أحد يعرف متى يمكن أن تنفذ الضربة". لكنه يؤكد أنه باقٍ ولا مكان آخر للمغادرة إليه. "هنا منطقتنا وسكننا وأرضنا". عبد الكريم محمود اعتاد المشهد بدوره، والأمور أصبحت عادية بالنسبة إليه. ويقول: "لا أخاف من شيء، لا أم ولا أب، أنام في المقبرة، ولا أخاف من الميت فهل سأخاف من جدار الصوت؟".

الأولاد يتأثرون بنسبة كبيرة بردود فعل أهلهم وأصدقائهم (حسين بيضون)
الأولاد يتأثرون بنسبة كبيرة بردود فعل أهلهم وأصدقائهم (حسين بيضون)

أما الأطفال فيمكن مصادفتهم في الشارع يلعبون على وقع أصوات الطائرات الإسرائيلية، يرتعبون قليلاً عند سماعهم صوت جدار الصوت ثم يواصلون اللعب. البعض يردد: "هذا جدار صوت وليس قصفاً". ولدى سؤالهم عن شعورهم حيال ما يجري، يضحكون ويتبادلون النكات محاولين الظهور بمظهر القوة التي يستمدونها من أهلهم الذين يحاولون قدر الإمكان التخفيف عنهم وإقناعهم بأنّ الأمر لا يستدعي القلق وأنه مجرّد صوت لا تأثير له.

في هذا السياق، تقول المعالجة النفسية شارلوت الخليل لـ "العربي الجديد"، إنّ "هذه المشهدية لا يمكن النظر اليها بمعزل عن تاريخ اللبناني وبالتحديد أهالي الجنوب الذين تعرّضوا لاعتداءات إسرائيلية خلال السنوات الماضية وبشكل متكرّر". وتشير إلى أنّ هناك أشخاصاً لديهم آليات تأقلم تساعدهم في ظلّ هذه الظروف. لذلك، نرى أن ردّات فعلهم قد تكون غريبة نوعاً ما، لكنها بمثابة آليات دفاعية نفسية تطوّرت نتيجة التعرّض الدائم لهذا النوع من الاعتداءات والتهديد والتهويل. تضيف: "الدراسات كلها أثبتت أنه بعد الصدمات، يكون الإنسان قادراً على تطوير مناعة نفسية معينة تساعده على التعامل مع صدمات مشابهة، عدا عن أن هناك عوامل أخرى تلعب دورها بالحالة الراهنة، منها دينية وأيديولوجية وثقافية، وقناعات راسخة لدى بعض الأشخاص التي تساعدهم على التعاطي مع هذه الظروف". وتردف الخليل: "من شأن عدم الخوف أن يرتبط أيضاً بالتقليل من خطورة الوضع، بمعنى أن هناك من يرى أن الحرب لن تتوسّع والمعارك لن تصل إلى مناطقه، وأن التهديدات لن تترجم ميدانياً، ما يجعله أكثر طمأنينة، وبالتالي يحصر المشهد في دائرة جدار الصوت الذي ينتهي بلحظته".

يقضيان يومهما على شاطئ صور (حسين بيضون)
يقضيان يومهما على شاطئ صور (حسين بيضون)

على صعيد الأطفال، تقول الخليل إن "الأولاد يتأثرون بنسبة كبيرة بردود فعل أهلهم وأصدقائهم ومن حولهم، ويحاولون تقليدها، وهناك أولاد يخافون طبعاً، لكن هنا دور الأهل لناحية التطمين، وأن يكونوا موجودين للإجابة عن أسئلة أطفالهم"، والوقوف أيضاً إلى جانبهم وتقديم الدعم لهم. وتلفت إلى أنه "بطبيعة الحال، التكرار يؤثر بدوره على العامل النفسي، بمعنى أن وقع جدار الصوت الأول الذي يُسمَع يختلف عندما يتكرر يومياً ليخلق حالة من التعوّد، في ظلّ التعرّض المستمرّ، ما ينعكس على تقليل درجة الخوف".
في المقابل، تلفت الخليل إلى أنّ "هذه المشهدية كلها قد تعني أن الكثير من اللبنانيين تعبوا فعلاً، وأصبحوا على حافة التحمّل والضغط، وهذا واقعٌ من الناحية النفسية ولا ينبغي تخطّيه أو غضّ النظر عنه، والدليل الهزة التي ضربت البلاد أخيراً ودفعت بالمواطنين إلى القول إنهم غير قادرين على تحمل أي شيء إضافي. من هنا أهمية أن يواصل الشخص اهتمامه بنفسه، وتنظيم أموره، وتقديم الدعم لمن حوله والوقوف إلى جانبه، لأن هناك من هو منزعج ويشعر بضيق ويحتاج فعلاً إلى دعم اجتماعي ونفسي ودعم محيطه". وتتحدث الخليل على موضوع الاغتيالات لتقول إن التدابير والإجراءات الاحترازية التي يتخذها بعض المواطنين هي أمر طبيعي ونوع من السلوك التكيّفي الذي يعطي للشخص إحساساً بالأمان، وهو بحاجة إليه لمواصلة يومه وحياته، والشعور بنوع من الاستقرار النفسي للتعامل مع الواقع المفروض عليه.

المساهمون